قراءة في “الناي والجسد ” لـ نجاح الجبيلي
لكي لا تكون القصة مجرد حكاية لا أكثر تُشبع الفضول الفطري للقارئ على القاص أن يمنحها معنى وعضي أي عبرة أو إيحاءات حسية تستثير المشاعر باستنطاق الجمال والمتعة وربما الخوف والرعب أو بمنحها بعدا فلسفيا يستقرئه ذو نباهة وخيال، وكلما تمكن القاص من كل ذلك يمكننا أن نقول عنه مبدعا. وهذا ما وجدته في مجموعة القاص نجاح الجبيلي( الناي والجسد ) الصادرة عام ٢٠١٩ عن منشورات اتحاد الأدباء والكتّاب في البصرة دار كيوان للنشر بواقع ٦٥ صفحة و ١٩ قصة.
لقد كان القاص الجبيلي قصديا متعمدا في كتابة قصصه واعيا تماما لما يكتب وماذا يريد منها. اجتمعت كل القصص على ثيمة واحدة هي الإنسان ومظلوميته واظنه تعمد أن يكون عنوان المجموعة الناي والجسد المأخوذ عن عنوان احدى قصص المجموعة فهذه القصة خلاصة كل القصص فهي تجسد المعنى الفلسفي لحياة الإنسان المظلوم.
تدور القصة عن كتلة سواد جامدة على جسر لا يعرف سرها المارة حتى يبدأ صبي بالعزف على الناي اغنية شعبية مألوفة ( سقطت عباءتها وكشفت عن وجه عجوز متغضن بالتجاعيد. ابتسمت ابتسامة عريضة بفم ادرد ثم نهضت وهي تطرق بقدميها على الأرض على إيقاع نغمات الناي.) ص٥٦ . أما عن أكثر القصص إثارة نفسيا وفلسفيا فهي قصة العقرب التي امتلأت بالرعب بسبب هذا المخلوق المميت والذي شارك سجينا زنزانته وعلى السجين أن يكون حارسا على العقرب تلك المفارقة العظيمة التي وضع فيها القاص بطل قصته وجعله يعيش في صراع المحافظة على حياته وحياة العقرب في ذات الوقت. لطالما كانت حياة الإنسان تحت وقع المفارقة الظالمة لتنتهي مأساوية في كل الأحوال. فها هو في قصة الصعود رغم اشتغال القاص على التخيل والحلم فهو يفكك صورة الجسد المصلوب في السماء بمسامير من النجوم فيصعد الجسد الى السماء وتهوي المسامير الى السطح ليستفيق الحالم على صوت المطر يضرب بقوة على سقف الغرفة الطينية. ص ٤٧ إنها صياغة فلسفية في العلاقة الإنسانية بين الإيمان والفقر. الفقر الذي يقود بطل قصة المعطف المثقف في البلاد الثلجية وفي ليلة باردة قارسة أن يقرأ قصة معطف غوغول فيحس بالدفء وينام.ص٥٣
لا تخلو القصص من الفانتازيا المأساوية فها هي مجموعة الأذان المقطوعة تجتمع في حاوية النفايات في حوار عن أصحابها في إشارة إلى أيام الحرب العراقية الإيرانية حيث كانت تقطع أذن الجندي الهارب من الحرب في قصة (النفايات) ص ٦٣ وكذلك في قصة (جورنيكا تحترق) ص ٥١.
كما أن القاص الجبيلي استثمر الهاجس السينمائي في تصوير قصته ( الحنّاية) ص٤٥ لينقل لنا مشهدين بين ضفتي نهير انتقل من مشهد الراعي الذي يقود قطيعه ليأكل من النفايات ومشهد ريفي لفتاة تخبز في تنورها الطيني على وقع انغام الناي. وقد برع الجبيلي في صياغة المشهدين بشكل مؤثر وبخاتمة تصويرية بارعة.
استثمر أيضا الجبيلي في قصصه العديد من الشخصيات المعروفة مثل بيكاسو وجبرا ابراهيم جبرا والولي( الحسين ) والحلاج ولوركا ليشكل منها قصصا تحمل دلائل وإشارات بليغة.
لقد تنوعت القصص وحملت بين طياتها المتعة والسرد الهادئ والسلس في شكلها والحركة والإثارة في اعماقها.
محكمة بدون زيادات في الوصف والحكي والابتعاد عن الترهل والإطالة فكانت مجموعة مميزة تستحق القراءة.