في بداية مجموعته الشعرية (صحيفة المتلمس) يكتب الشاعر العراقي عبد الأمير خليل مراد تعريفاً موجزاً بالمتلمس، والمتلمس هو جرير بن عبدالمسيح بن عبدالله بن دوفن بن حرب .. من شعراء الجاهلية..
إن علاقة الكتابة التلقائية بالكائن التخييلي، علاقة السلطة الكتابية عندما تكون الآلية النفسية تعتزم التعبير، إن كان ذلك عن طريق النصّ المقروء أو عن طريق النصّ المكتوب، ففي الحالتين يتحرك الكائن التخييلي في الخلق الشعري؛ وخصوصا عندما تكون العلاقات بين المحسوسات، علاقات لينة لها جاذبيتها في البعد الكتابي، ومن خلال هذا المنظور، يسعى الشاعر إلى فقدان ذاته العادية ليدخل إلى ذات حقيقية اختارت عالمها الملائم في البعد الكتابي.
يتحول النصّ الشعري بواسطة الصور المصغرة من الواقع الذهني المجرد إلى مظهر من مظاهر الإيحاء الملموس، حيث أن الواقع الذهني الخيالي، يحوي على النصّ المقروء من خلال الخلق النصّي، بينما الواقع المكتوب فيحوي على بنية النصّ الكبرى ( الصورة الكبرى ) والتي تكون من النسق والعلاقات التي تقيمها الصور المصغرة، ولا يفوتنا بهذه الحالة الترميم والتشييد، ( لم نقل الهدم والبناء، باعتبار النصّ قد بني ويحتاج إلى علاقات أخرى والنظر بماهيته التأسيسية ).
إن العلاقة بين الدال والمدلول أو بين البعد الخيالي والصورة المحتكرة في الذات العاملة، شكلت هذه الاتجاهات البعد اللغوي والذي يكون له الأولية وكيفية التوظيف والانتماء إلى اللغة، إن كانت في الاشتغالات الدلالية أو في الاشتغالات التصويرية والتي تتجمع بهما الأبعاد الرمزية، ونميل إلى هذه العلاقة باعتبار أن الرمز الخيالي جزء من حركة الكائن التخييلي في النصّ الشعري، حيث إنه المؤسس الأول حتى للفعل الخيالي الذي ينتمي له النصّ، فالماهية الأولى هي الكائن التخييلي ومدى حركته في الذات العاملة ومؤثراته المباشرة للنقل الأولي لتحويل النصّ الشعري ورسم الروح الفلسفية باتجاهاته المتعددة..
الشاعر العراقي عبد الأمير مراد ومن خلال مجموعته الشعرية صحيفة المتلمس، يميل إلى كائنات متعددة، ولكن الذي يوقفنا بالدرجة الأولى هو الكائن التخييلي وعلاقته مع الذات الحقيقية التي تعمل بالتوافق مع اختيار عالمها الأرحب الذي لا يخلو من المعاني العائمة حولها..
نميل إلى إعادة تعيين الدلالة من خلال الجملة ومكان المفردة التي تقبلت التركيب، وبهذه الوسيلة نلاحظ أن التطابق الذي يحدث بين المفردة والجملة، تطابقا إجباريا، أي أن الجملة الشعرية تحتاج إلى هذا التطابق، والذي يحدث أن الإشارة التي يعينها الشاعر هي خير دليل لاستقطاب الدلالات، فهي تدل على شيء معين، والشيء المعين يكون من المسميات لديه، أو ربما من المتعلقات، أما من ناحية الكائن التخييلي فتكون المسميات أوفر وأعمق، وذلك بسبب لأن الشاعر لايحتاج إلى مؤثرات خارجية للمفردات الشعرية التي تتقبل التركيب( كما قال ابن سينا ) في الجملة الشعرية..
( 1 )
حين لا أملك إلا أن أقذفكَ
بهذا القلبِ
الذي تدوسه حوافرُ العنقاء من كلّ جانبْ
حتى يقفزَ من صدري
كالقطط المسعورة
دعني أصرخُ
” أصرخ باسمكَ “
من أعماقي المسكونة بالضجرْ
من قصيدة: احتمالات – ص 11 – صحيفة المتلمس
عندما يتطور المعنى في النصّ الشعري الحديث، يوصلنا إلى غاية، والغاية التي نعنيها علاقته مع مشكلة الفهم، فللفهم اتصالات وعلاقات تتواجد داخل النصّ، ولكن لانحصر المفاهيم النصية بتلك الكلمات التي وظفها الشاعر فقط، فهناك بعض الأبعاد، وقد تكون من الأبعاد المؤجلة يرتديها النصّ المجاور في حالة التفكيك، لذلك فإن الفعل المتحقق والذي يشكل الجزء الدائر في القول الشعري، يظهر بين أجزاء الكلام، ويشكل الجزء المفهوم أيضا أحد تفاعلات الشاعر في النصّ اللغوي، فالمشهد الشعري الذي رسمه الشاعر عبد الأمير مراد يشكل الجزء من الكلّ؛ أي لانستطيع على قطع النصوص المرسومة. فالارتباطات الاتصالية من خلال المفاهيم شكلت لذة الشاعر في الانتماء إليها، لذلك عندما يطرق بابا من أبواب المعاني، تشكل الغذاء المفضل لديه، تقول نظرية اللذة، (( إنّ الإنسان يسعى إلى تحصيل اللذة، وإذا كان يسعى إلى شيء ما، إذن، لابدّ أن هذا الشيء لذيذ. – ص 22 – النظريات القائمة على مبدأ اللذة – إدوارد ج. موراي- ترجمة: د. أحمد عبد العزيز سلامة – مراجعة: د. محمد عثمان نجاتي)).
حين لا أملك إلا أن أقذفكَ + بهذا القلبِ + الذي تدوسه حوافرُ العنقاء من كلّ جانبْ + حتى يقفزَ من صدري + كالقطط المسعورة + دعني أصرخُ + ” أصرخ باسمكَ ” + من أعماقي المسكونة بالضجرْ
يشكل الفعل الإنجازي العلامة الدائرة في المقطع الشعري، والذي يشكل أحد المشاهد الشعرية، ومن خلاله نقيس القياسات التأويلية والمفاهيم التي تقودنا إلى قصدية الشاعر، وبما أننا نملك فعلين في المقطع المرسوم، فمهمة الفهم ستكون أوفر للمتلقي، بين الإيجاب والقبول، وبين الرفض والوضعية، فنستطيع أن نقول أننا أمام الواضع بمفاهيمه الوضعية والعلاقات التي أسسها بين الأفعال وبين استحضار المعنى، لو أخذنا الفعل أملك والفعل أقذف، فسوف نلاحظ أنّ الفعلين من أفعال الكلام اللذين وظفهما الشاعر في النصّ، فالفعل قذف، يشكل دلالة من أفعال الحركة الانتقالية القوية، ومضارعه يقذف، ليس الموضوع يكمن هنا، فقط، فالموضوع هو التحول الذي نلاحظه من المعنى إلى الموضوع ليشكل لنا صيغة شعرية، وهي نتيجة نهائية لموضوع الفهم الذي ننوي تبيانه من خلال حركة الجمل الامتدادية والتي أعطت مفاهيم متواصلة ( والذي يساعدنا على ذلك هو حركة الأفعال ونوعيتها المكانية في المنظور الدلالي ).
إن التداخل الذي يحدث بين المفهوم والتأويل يقودنا إلى تجليات الجملة عبر منطوقها القولي، ومن خلالها تظهر قصدية الشاعر، ولكن الجملة التي نلاحظها في المقطع غير متوقفة، بل امتدادية؛ لذلك تشكل اللغة العامل الأساسي باحتضان المشهد الشعري لدى الشاعر العراقي عبد الأمير مراد، ومن خلالها نستطيع الوصول إلى التصور الذاتي الذي كان من المعينات في تغذية النصّ الشعري .. (( إنّ صفائح الفينومينولوجيا والتأويل لم تنفك عن التداخل والاحتكاك. فالأرضية المشتركة بين هاتين الفلسفتين هي اللغة ليست كأداة منطقية وألسنية وإنما كتجليات وجودية وفتوحات دلالية. فالمعنى أو الوجود ينفتح في أفق اللغة مثلما ينبجس النهار في أفق السماء. فاللغة هي كينونة النصّ والمعنى. – ص 93 – الإزاحة والاحتمال – محمد شوقي الزين )).
واتركني أصفّق وسط الحارة…
كلّ مساءْ
وأخضّب سحنتك الوردية بالحنّاءِ
وأسفكُ عند قدميكَ الوردَ
لأباركَ فيكَ جنوني
أنا… أنتَ
وأنتَ… أنا …؟
وكلانا مأخوذ بحلمٍ لم ينتهِ…
بعدُ…!
من قصيدة: احتمالات – ص 11 – صحيفة المتلمس
الخيال ومن خلال التخيل أيضا، تولد الصور الشعرية الحيّة، تلك الصور التي تتشكل وليدة لحظتها في بعض الأحيان ( إذا اعتبرنا أن اللحظة الشعرية لها فعاليتها أيضا في المنظور الشعري) وهذا مايحدث في أغلب النصوص عندما تكون الذات العاملة أو الحقيقية قد تجاوزت حالتها العادية اليومية وراحت تفتش عن حقول استعارية وتشبيهية أو صور مجردة لتبيان التصوير الجديد في النصّ الشعري، فالقوة التي تنتمي إليها الذات، قوة تخييلية ملكية، وهي المختصة بالتكوين التصويري الحيالي.
وأجير عيوني من صورتكَ الوهمية + واتركني أصفّق وسط الحارة… + كلّ مساءْ + وأخضّب سحنتك الوردية بالحنّاءِ + وأسفكُ عند قدميكَ الوردَ + لأباركَ فيكَ جنوني + أنا… أنتَ + وأنتَ… أنا …؟ + وكلانا مأخوذ بحلمٍ لم ينتهِ…
من خلال الجملة المتواصلة نلاحظ أنّه ليس هناك مايثير الذات المباشرة، لذلك ومن خلال التحليل من مفهوم الذات الانفرادية، يتم الاهتمام بالنسق التشفيري الذي ينزاح عن الذات، فيصبح عمل الذات من الأعمال غير المباشرة، وهذا مانلاحظه في فاعلية تشكيل النسق، والبنيان الذي يمرّ علينا في المشهد الشعري، هي طبيعة العلاقات المتواجدة؛ وهي علاقات من خلال العناصر المتواجدة في النصّ لغرض البناء، فمثلا :
وأجير عيوني من صورتكَ الوهمية.. هنا تتبين علاقة الباث مع ثلاثة كائنات..
كائن الأنا : باعتبار أن الأنا التي توازي المشهد الشعري، هي الأنا الشاعرة، فالتحول الذاتي تبين، بأن الشاعر قد تجاوز الذات واهتم بمبدأ كائن الأنا، وقد تبينت من خلال طبيعة الأنساق التي رافقت الجمل الشعرية ومضامينها التي حملت المعاني..
كائن الآخر : حيث أن التوجيه المُعين الذي التزمته الجملة، هي توجيه نحو الغائب، فظهر الغائب كمعنى مؤجل غير ظاهري ( المعنى المؤجل، يكون من خصوصية المتلقي لكشف بما يدور في المنظور النصي، وعادة يكون النصّ المجاور يهتم بهذه المعاني )، فمعظم الجمل الشعرية التي تواصلت مع البناء النصي، تحدثت من خلال القول الشعري نحو الآخر الغائب..
كائن الإثارة : من خلال حركة المتخيل استطاع الشاعر أن يمسك بعض المعاني، والتي أدت مفعولها من خلال فعل الإثارة، والذي زار كل جملة من الجمل الشعرية، وفي نفس الوقت كانت التصورات الذاتية قد ظهرت إلى جانب الكائن التخييلي كمهمة لابد منها للابتعاد عن المباشرة في بناء النصّ الشعري. فالصيغة النصية التي تواصلت، هي البنية الجمالية من خلال جمالية اللغة التي وظفها الباث لتبرقع المعاني الممتدة..
( 2 )
خذني هذه المرّة
لأضرم النار في جسدي الناحل
ولا أهمّ بشيء لم ينله أبو الطيب المتنبي
فليس عندي إلا بقايا جمجمةٍ سوداءَ
وعظام لايكسوها اللحم
ولكنني رغم أفولي
أحلم بالقمر الذي لن يُضيء شرفتنا
الليلة
من قصيدة: احتمالات – ص 11 – صحيفة المتلمس