محمد زكي ابراهيم
في حقبة ما، كان بعض العرب يفضل الكتابة بلغة المستعمر، الذي أطبق على بلاده، أو أمسك بزمام الأمور فيها. في ما كان البعض الآخر جاهلاً بلغته الأم، التي يفترض أنه نشأ عليها، بسبب نوع التعليم الذي تلقاه في صباه. ووجد آخرون في لغة الأجنبي قدراً أكبر من الذيوع، بسبب ظروف النشر في البلاد العربية.
وبالطبع فإن تصنيف هؤلاء الكتاب يخضع لاعتبارات عدة. فالانتماء الحقيقي يظهر جلياً في انشغالات الكاتب وهمومه اليومية بغض النظر عن اللغة التي يكتب فيها. وكثيراً ما كان الدافع إلى ذلك الإغراءات المادية. وهو ما لم يتيسر له في بلاده التي تعاني من العزوف عن القراءة. وقد قرأت أن ظاهرة نشر مؤلفات الكتاب القادمين من شمال أفريقيا باتت تقلق الأوساط الأدبية الفرنسية. لأنها تضخمت بشكل كبير، ملفت للانتباه.
وقد يجادل قوم أن اللغة ليست إلا وسيلة لنقل الأفكار، ولا فضل للغة على أخرى، في هذا الخصوص. إلا أن هؤلاء لا يستطيعون تبرير لماذا عمدت فرنسا إلى محاربة العربية في الجزائر حينما كانت تفرض سيطرتها عليها. ومنعت الطلبة الصغار من دراستها في المدارس الرسمية. مع ما استلزمها ذلك من جهد، ووقت، ومال.
بل إن فرنسا أنشأت عام 1970 منظمة الدول الفرنكفونية، أي الناطقة بالفرنسية، لتضم أكثر من 57 بلداً كامل العضوية، و23 بلداً بصفة مراقب. وهي البلدان التي تتكلم الفرنسية كلغة رئيسية أو ثانوية. وقد أسست في الأصل لتكون سداً منيعاً بوجه الثقافة الإنكليزية. ثم اتضح أن لها أهدافاً مخابراتية أبعد من ذلك. وقيل أن الفرنكفونية هي نمط تفكير قبل أن تكون نموذجاً سياسياً. فاللغة في مفهومها رابطة دولية قادرة على مواجهة دول كبرى، ذات قدرات اقتصادية وعسكرية هائلة، وليست مجرد أنظمة صوتية أو إشارات أو علامات، أو غير ذلك.
ومن المفارقات أن هناك دولاً عربية انتمت إليها، وهي لا تحسن الفرنسية، ولا تعتمد النموذج السياسي الفرنسي، مثل مصر وقطر. وقد طلبت فرنسا من مصر السادات ذلك رغبة منها في إحياء الإرث الفرنسي القديم فيها. أما قطر فقد قبلت كدولة كاملة عضوية عام 2012 خلافاً لكل التقاليد التي اعتمدتها المنظمة، بسبب الدعم المالي الكبير الذي قدمته لها. أما الجزائر (وهي ثالث دولة ناطقة بالفرنسية في العالم بعد فرنسا والكونغو) فقد رفضت الانضمام للمنظمة، لأنها لم تنس بعد ما خلفه الفرنسيون فيها من مآس. وما اقترفوه فيها من آثام.
لقد كان واضحاً أن المصالح في السياسة الخارجية تمشي على خط مواز للثقافة. ولم يكن هناك بد من إعطاء اللغة ما تستحقه من اهتمام، لأنها الوعاء الذي يضم هذه الثقافة. وهي لم تكن في يوم من الأيام أداة للتعبير عن الحاجات الفردية، بقدر ما كانت الوسيلة الأكبر لحفظ كيان الأمة. ولا بد أن يكون الاهتمام بها في مقدمة الأولويات دون أي شيء آخر.