في ذكرى سركون بولص.. شاعر الانسان المنهك

سلام مكي

مرت قبل يومين، ذكرى رحيل الشاعر سركون بولص. وكالعادة، مرت ذكراه مرور الكرام.. سركون لم يكن مجرد شاعر ينتمي الى جيل شعري أسس لتقاليد وأنساق شعرية جديدة، قلبت مفاهيم الشعر العراقي وشكلت مرحلة جديدة وفاعلة في المشهد الشعري العراقي، بل يمثل سركون نسقا شعريا مغايرا ومختلفا عن أقرانه، يمثل لحظة شعرية حرجة وقلقة، يمثل صرخة وانفعالا بوجه الواقع. يقول سركون عن الشعر: قد تكون المهمة المركزية للشعر في زماننا هي أن يقدم الأدلة التي تذكرنا مرة بعد أخرى بما هناك، بما له وجود حقيقي في العالم. بما يصدمنا أو يوقظنا وما هو جدير بالفرز والملاحظة بين آلاف الواقع الاخرى التي ليست جديرة سوى بالنسيان. فالشعر عنده، محاولة لإعادة إنتاج الواقع عبر آليات تساهم في ترسيخه وتحويله إلى فكرة راسخة في الأذهان. والمطلع على شعر سركون، يجد أنه طبّق ما قاله أعلاه وبشكل حرفي في أشعاره ونصوصه. تلك النصوص التي تحولت إلى فعل توثيقي للمرحلة التي عاشها سركون، بداءً من حياته في كركوك وانتقاله إلى بغداد، وحتى محطاته الأخيرة في المنفى. وقد لا نجد أصدق من شعر سركون في توثيق تلك المراحل المهمة التي عاشها الكثير من العراقيين، سواء في الداخل أو في الخارج. ففي قصيدة ” جئت إليك من هناك” من ديوان” عظمة أخرى لكلب القبيلة” ، نجد سركون، قد وثّق مرحلة مهمة من الحياة العراقية، بصورة مختلفة عن أغلب محاولات التوثيق التي مارسها الآخرون. القصيدة تتحدث عن ” يوسف الحيدري” صديق سركون، وكيف أنه لاقاه بعد مدة فراق بينهما، وكيف أن سركون لم يستطع معرفة من أول مرة.

صديقي القصاص هو بعينه

لكن شيئا أفرغ عينيه من الضياء

صديقي القديم الفكه

هو بذاته

لكن شيئا قلب قسماته

من الداخل: الحواجب بيضاء

سوداء هي الأسنان

إذا ابتسم لا فرحا بدا كأنه يبكي

هذه الصورة التي رسها سركون لصديقه، ربما مر الكثيرون بها، ولعل سركون رأى أن هذه القصيدة لم تكتب لأجل ان تبقى حبيسة الكتب، فقد سجّلها بصوته النادر والمميز، لتضيف لها نكهة غريبة، تجعلها أكثر حضورا وفاعلية في الذاكرة الشعرية والثقافية. فمن يدخل المعتقل، لا يخرج، إلا وهو متعب، منهك، غير قادر على الثبات، شكله يوحي بالضحك، لكنه في الحقيقة يبكي. أيام قليلة في المعتقل، تكفي لأن تجعل من الشخص كائنا آخر.

بغداد سنبلة تشبث بها الجراد

جئت إليك من هناك

إنه الدمار

قالي لي

وسار مبتعدا واختفى في كل مكان

بغداد السنبلة المملوءة بالحياة والرغبة. والسنبلة التي هي روح الحقل ومركزه، ولا قيمة له دونها، الآن هي محتلة ومعتقلة من قبل الجراد الذي هجم عليها ويهجم اليوم وغدا ربما. والشاعر هنا، يحاول أن يستصرخ بغداد، ويلفت الانتباه إلى أن الجراد يحتلها وقد لا يترك منها شيئا. والشاعر إنما قرن السنابل بالانسان، ذلك أنه يدرك جيدا أن الانسان هو روح الكون ومركزه. ولا معنى للحياة دون الانسان. وهذا الانسان هو السنبلة التي تشبث بها الموت والخراب والدمار.

ولم يصمت صوت سركون عندما هجر الحقل وتوجه إلى بلاد الله الفسيحة. فهناك لم يجد الجنان والا الحقول التي تكبر فيها السنابل وتشيخ دون ان يحتلها الجراد. فهناك المنفى، الذي يفقد فيه الانسان أغلى ما يملك في سبيل الحصول في سقف يؤويه.

اللاجئ المستغرق في سرد حكايته

لا يحس بالنار عندما تلسع أصابه السيجارة

مستغرق في دهشة أن يكون هنا

بعد كل تلك الهناكات: المحطات والمرافئ

دوريات التفتيش، الأوراق المزورة

……..

المهربون، مافيات التهجير، لو سألتني

ربما كانوا أهون، وسماء النوارس الجائعة

فوق سفينة معطوبة في اللا مكان

…..

يحكي ويحكي ويحكي

لأنه وصل، لكنه لم يذق طعم الوصول

ولا يحس بالنار، عندما تحرق أصابعه السيجارة

هذه الصور التي تجسد معاناة المهجرين والمهاجرين من أوطانهم، الغارقين في دوامات الانتظار والعودة إلى الذكريات والماضي القريب، والرغبة في معرفة ما حدث بالتحديد. لدرجة أنه لا يشعر بالنار وهي تحرق أصابعه.

سركون، قد يكون نال قسطا طيبا من الاهتمام والدراسة من قبل النقاد، كيف لا وهو الاسم الأبرز والأهم من بين الأسماء الشعرية التي أسست لخطاب شعري جديد، وينتمي إلى جيل، مهم وهو جيل الستينيات. لكن رغم أن الانسان كان حاضرا بقوة في شعر سركون، لكنه في نفس الوقت، كان غائبا عن بعض النقاد والشعراء الذين تناولوا شعره بالدراسة والتحليل. ولعل أبرز الدراسات التي كتبت عن حديثا كانت ضمن كتاب ” شعراء خارج البيان الشعري” للراحل الدكتور خالد علي مصطفى. وكتاب ” رهانات شعراء الحداثة” للأستاذ الناقد فاضل ثامر. انشغل الدكتور خالد علي مصطفى بجانب مهم وهو الوزن والنظم والنثر، فأحصى القصائد التي التزمت الوزن والقصائد التي تحررت منه. والدراسة سبق وأن ألقاها الدكتور في محاضرة في اتحاد الأدباء، وهي تعد من أهم الدراسات التي تناولت شعر سركون. ولكن حضور ” مستفعلن” كان على حساب الانسان. كذلك دراسة الناقد فاضل ثامر، كان حضور المنهج النقدي على حساب الانسان أيضا.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة