سلام مكي
مضى عام على رحيل شاعر الخبرة الداخلية وشاعر الراية والمتاهة ( فوزي كريم). ذلك الشاعر الذي لم يستطع الوطن أن يستوعبه مدة طويلة، فقذف به الى المنفى، مثله مثل أبناء جيله الآخرين. وبقي هناك حتى توفي وهو في قمة عطائه الشعري والنقدي. فوزي كريم، لم يعاني من الغربة بحد ذاتها، فهو قضى معظم أيام حياته منعزلا بين الكتب والموسيقى، يحاول اكتشاف محنة الشعر والفكر. مشروعه النقدي الذي مثّل علامة فارقة في تاريخ الكتابة النقدية عن الشعر، كان سببا في عزلة كريم الثقافية. ذلك أن منطلقاته لم تكن نابعة من عقيدة أو ايدولوجية معينة، بل كانت نابعة من الشعر الحقيقي الذي هو أصدق عاطفة وأقوى تجربة يمكن للروح أن تعبر من خلاله عن مكنوناتها. مشروعه النقدي، كان ينصب على نقد تجارب أبناء جيله الشعراء الذين كانوا يكتبون تحت الراية، راية الحزب وراية القومية.. فوزي كريم، ومن خلال اطلاعه العميق على التراث الشعري العربي واطلاعه على تجارب زملائه وأبناء جيله، اكتشف وجود هوة تفصل بين النص وبين الشاعر. يقول في بداية كتابه( تهافت الستينيين): الهوة بين النص الشعري وخبرة الشاعر الداخلية ظاهرة عربية امتدت من الشعر الجاهلي حتى اليوم.. ففوزي، طرح في كتابه “ثياب الإمبراطور” سؤالا جوهريا يمثل ذروة مشروعه: لِمَ أشعر دائما بالهوة تفضل بين النص الشعري العربي وبين الدلالات الروحية المفترضة التي تتفجر من، وتكشف عن، فردية الشاعر؟ بالهوة التي تقطع الصلة بين قصائد الشاعر وعالمه الداخلي، حيث تفترض البديهة أنه مصدر القصائد ومبررها.. الهوة التي تحرم القصائد من قوة الحياة وعاطفتها، وتتركها مادة( صناعة فنية) لا تنتسب لهوية انسانية وتتزاحم فيما بينها وفق قيم شكلية عمادها المهارة والذكاء.. كريم رأى أن العالم الداخلي للشاعر هو الذي يمنح القصيدة شرعيتها، بوصفها معبرة عن النزعة الانسانية المتأصلة فيه، وإن خروج القصيدة من مصادر أخرى غير العالم الروحي الداخلي الخاص بالشاعر، يفقدها قدرتها على تحقيق غايتها المتمثلة بالتعبير عن البعد الروحي والنفسي للشاعر، وتكون مجرد صدى لظواهر خارجية في نفس الشاعر، يكتبها الشاعر، وكأنها يؤدي وظيفة اجتماعية لا أكثر.
قسّم فوزي كريم الحياة الشعرية في الستينيات الى جيلين: الأول جيل يوصف بالموجة الصاخبة في إشارة الى كتاب سامي مهدي الموجة الصاخبة. وجيل ” الروح الحية” اشارة الى كتاب فاضل العزاوي. يقول عن الجيلين: فالثقافة مسيسة لدى الجيلين بصورة تامة وهوية المثقف تكمن في انتمائه العقائدي.. يرى فوزي أن تسيس الثقافة وتقسيمها أما الى قومية أو غربية يعيق سعة الأفق لديها ويحولها الى عقيدة عمياء. كان يريد فوزي للشعر وللثقافة أن تكون انسانية، تستوعب الجميع، نابعة من أعماق النفس الانسانية، موجهة من أسئلة الانسان الكبرى وموقفه من الحياة والموت والوجود. كان فوزي شاعرا مفرطا في انسانيته، لذا كان مشروعه النقدي، موجها نحو ما يعتقد أنها ضد الانسان، وضد مقيدات تفكيره. لم يكن هذا الأمر غائبا عن ” حسن ناظم” الكاتب والناقد، الذي وجد في مشروع فوزي النقدي والشعري، مادة تضج بالانسانية، مادة تجعل من الانسان محورا لها. فكان هذا الأمر دافعا لأن ينجز حسن كتابين عن فوزي، الأول: إضاءة التوت وعتمة الدفلى، الصادر عن دار المدى عام 2013 وهو عبارة عن حوار مع فوزي. والثاني: أنسنة الشعر مدخل إلى حداثة أخرى.. فوزي كريم نموذجا. صدر عن المركز الثقافي للطباعة والنشر عام 2002 وأعادت جامعة الكوفة طبعه مؤخرا. في كتاب” إضاءة التوت…” استطاع حسن ناظم من خلال اسئلته الى كشف العوالم الخفية والينابيع التي استقى منها فوزي شعره ونثره. يكشف بوضوح عن توجهه. فعندما سأله حسن: هرع أبناء جيلك الستينيون الى الثورة، الحزب، إلى أين هرعت؟ أجاب فوزي: يفترض أن أهرع الى أقرب مرتفع، أقف على قمته وأراقب، ولكنني للأسف كنت أقل وعيا من ذلك، ومفرط الحساسية، فهرعت الى اللذة، كانت الخمرة، الصحبة، واستثارة الوعي الجدل لذائذ حسية… ولعل اجابة فوزي هذه، تنم عن ندم داخلي، ينتابه، كلما تذكره موقفه الذي يراه سلبيا وغير موفق.. ولعل أبرز تلك المواقف والقرارات التي اتخذها هو توقيعه على البيان الشعري مع فاضل العزاوي وسامي مهدي وخالد علي مصطفى. ينقل د. حسن ناظم في كتابه” أنسنة الشعر” عن الشاعر علي جعفر العلاق: ومع أنه واحد من شعراء الستينيات، إلا أنني لم أكن أراه واحدا منهم تماما، وحين اقترن اسمه بالبيان الشعري، الذي أصدرته مجموعة من ذلك الجيل، كان الأمر بالنسبة لي مثار استغراب واضح، لأن فوزي كريم لم يكن منتميا الى عقيدة سياسية ولم يكن صاحب إدعاءات كبيرة، كما كان بعيدا عن ركوب الموجات المثيرة للجدل. ويقول عنه الشاعر الرحل خالد علي مصطفى في كتابه” شعراء البيان الشعري” : .. وهو الأمر الذي وجد نفسه فيه مستجيبا لتوقيع” البيان الشعري” حين دعي الى ذلك في جلسة مشتركة جمعتنا بمقهى ياسين. لا أدري إن كنت استجابته لتوقيع البيان حياءً ام قناعة، غير أن جهوده النقدية تدل على أنه لم يكن مقتنعا به… إن توقيع فوزي على البيان ومن ثم تجاهله فيما بعد، يدل على انسانية عالية من منه. فهو يرى أن وجوده مع جيل الموجة الصاخبة وجيل الروح الحية، أمر لا يتفق وقناعاته الشعرية الخاصة، لكنه وافق على مضض أن يكون جزءا من ذلك المشروع على الورق فقط! ولم يقف منجز فوزي عند ثياب الامبراطور و تهافت الستينيين، بل تبعه بعدد من الكتب المهمة” يوميات نهاية كابوس، الفضائل الموسيقية، مدينة النحاس، العودة الى كاردينيا… وآخر اصدارته التي توج بها مشروعه النقدي هو كتاب” شاعر المتاهة وشاعر الراية.. الشعر وجذور الكراهية. الصادر عن دار المتوسط. شاعر الراية هو الشاعر الذي لا يكتب إلا تحت راية القبيلة، الحزب، العشيرة.. وهو النمط الذي نقده فوزي بشدة، وعدّ القصائد التي كتبت تحت ظل الراية، نقطة ضعف في تاريخ الشعر العربي. شاعر المتاهة هو شاعر الحيرة والاسئلة. شاعر المتاهة هو الذي يكتب القصيدة الحائرة، قصيدة السؤال، بنت لحظتها وليست قصيدة النية المبيتة. ونلاحظ أن تسمية مجلته التي اصدرها” اللحظة الشعرية” تشير وبوضوح الى سبب التسمية. إن رحيل فوزي كريم في وقت كان خطابه المتفرد، مهم وضروري في ظل تشعب وتعقد المشهد الشعري، حيث هنالك فوضوية تسود المشهد التي انعكس المشهد السياسي عليها. ما تركه فوزي من إرث شعري ونقدي، حري بالمراجعة والقراءة من قبل المختصين ومحاولة إكمال الطريق الذي بدأه فوزي مهم جدا نظرا لأهمية ذلك الطريق ودوروه الكبير في إعادة تصحيح الواقع الشعري الذي نعيشه اليوم.