أنمار رحمة الله
كنتُ لا أتحدث حين أجلس مع عائلتي المكونة من أبي وأمي وأخي الأكبر. ما الجدوى من حديثي إذا كانوا لا ينصتون لي، فيصير حديثي المتداخل مع أحاديثهم الصارمة، أشبه بتسخين بحيرة في شتاء قارص. لهذا كنت أتسلى بألعابي الإلكترونية في غرفتي، وأسمع همهمة أصواتهم التي تتسلل صوب غرفتي وأذني، كما تتسلل العصافير إلى أوكارها عند الغسق. ولا أدري لماذا حين أنام تظل أصوات نقاشاتهم وأحاديثهم المختلفة، تظل عالقة في أذني، بل أسمعها تعلو وتخفت، مما يدفعني للنهوض من فراشي وإلقاء نظرة عبر باب الصالة التي يجلسون فيها، وحين ينتبهون إلى ظلي أو صوت أقدامي ينادونني باسمي ليتأكدوا ثم يصمتون!. أحاديثهم التي تشبه محاولة لتفكيك قنبلة موقوتة، فلا يسمح للأطفال مثلي بالإنصات لها. فكما قلت، حين أدخل مباغتاً يسكتون دفعة واحدة، ويظلون ينظرون إليّ منتظرين خروجي من الصالة، وبالفعل كنتُ أشفق عليهم وأخرج لكي يكملوا أحاديثهم التي أمزق خيوطها. بعد أن توفي والدي، أستمرت الأحاديث ما بين أخي الأكبر وأمي. وكالعادة لا يُسمح لي بالاستماع لهما، ولا مشاركتهما الحديث أو النقاش، أو حتى الشكوى من حزني على رحيل أبي.. وحين توفيت أمي هي الأخرى بعد مدة من الزمن، لم يبق سواي أنا وأخي الأكبر. ومع هذا فقد كان أخي يتحدث في الصالة، وحين قتلني الفضول لكي أرى مع من يتحدث، تلصصت عليه خلسة، فوجدته يتحدث مع شخص آخر في الهاتف.. وبعد سنوات كبرتُ، كنت أنتظر اللحظة التي أكون فيها رجلاً، ويقتنع أخي بالحديث معي، لكن عبثاً كنت أحاول استدراجه للحديث في أي شيء حتى لو كان تافهاً. ثم قرر أخي الهجرة إلى دولة بعيدة للعمل والبحث عن فرصة أفضل لبناء مستقبله مع امرأة لا أعرفها. لعلها التي كانت تتحدث معه طوال الفترة التي كنت فيها وحيداً في الغرفة أنصت إلى صوت ضحكاته. والمؤسف أن طائرة أخي سقطت في حادث فضيع راح ضحيته عشرات المسافرين، وأخي والمرأة التي كانت برفقته قد لقيا حتفهما فيه فوراً.. لهذا لم أبق وحيداً في المنزل وحسب، بل في العالم كله. بين الحين والحين أبعثر صور عائلتي على الأرض وأطالع وجوههم. ثم أنني لا أعرف لماذا إلى هذه اللحظة، حين أضع رأسي على الوسادة يخيل لي أنني أسمع أصوات حديثهم في الصالة!. وكلما خرجت من غرفتي لكي أتأكد، بالرغم من يقيني أن أبي وأمي وأخي قد فارقوا جميعاً الحياة إلى الأبد، بالرغم من هذا أخرج وأتسحب على مهل، وأمد رأسي عبر باب الصالة، فأشعر بالجو البارد والظلام فيها، ويعم الصمت. لعل أشباحهم التي تزور المنزل هي أيضاً مرتابة من وجودي..!. فلا ترغب في أن أستمع لأحاديثهم كالعادة، فأعود خائباً إلى سريري.