ماكسميليان روبسبير (1758-1794) أحد أبرز شخصيات الثورة الفرنسية، تحت ذريعة “أعداء الثورة” قام باعدام معظم زعماءها، لينتهي به المطاف واتباعه الى نفس المصير أي المقصلة. تذكرت تلك الشخصية التاريخية مع هذا الطفح الواسع من الخطابات والعنتريات الثوروية، التي تطفلت على المشهد العراقي الراهن، متوعدة بمصير مماثل لكل من ستضمه قائمتهم حول “اعداء الثورة” وغير ذلك من العناوين التي استهوت دقلاتهم عند مفترق الطرق. طبعاً هذه المخلوقات لا تمت بصلة لا من قريب ولا من بعيد بعنوان موضوعنا “روبسبير” الممثل البارز لجناح اليعاقبة في الثورة الفرنسية العظمى، والتي غيرت مجرى التاريخ بصنعها لـ “معنى جديد” لحياة البشر في نهاية القرن الثامن عشر. غالبية المتسللين لدشداشة روبسبير، ومن الذين اعرفهم شخصياً ينتسبون لنادي “الحبربش” أي الشريحة الرشيقة والمتفننة في مجال “الدقلات”. ومن لديه قليلا من الاطلاع على تاريخ هذا الوطن المنكوب، يعرف جيداً مكانة هذه الشريحة ونوع الادوار التي لعبتها وحجم الخراب التي خلفته وراءها.
لا يتناطح كبشان على ان مفهوم “الثورة” وطابعها، لم يعد بعد مرور أكثر من قرنين على اندلاع الثورة الفرنسية (العام 1789)، كما حصل في باريس آنذاك، فقد شهدت البشرية ولادة عدة ثورات من دون أن تحتاج الى الاستعانة بقلق روبسبير وشكوكه وعنفه، لكن جوهرها ووظيفتها الاساس تبقى تدور حول صناعة “المعنى الجديد” والذي من دون وجوده لا وجود لثورة فعلية. وهذا ما نحتاج اليه في هذا الوطن الذي استباحته قوافل مدججة بكل ماهو متنافر والحاجات والتحديات الفعلية لعالم صار فيه عمر المعلومة أقصر من عمر الفراشة. البعض ممن استسهل عملية الانتقال من مستنقعات الحبربش الى متاريس “الثورة”، لا يمكن أن ننتظر منه أدنى التفاتة لمثل هذه الهموم والاهتمامات الاساسية الكفيلة بارتقاء البشر (افراداً وجماعات). وفي العراق، البلد الذي ابتلى تاريخه (القديم والحديث) بلعنة العنف والعنف المضاد، يجد نفسه اليوم وبعد مرور أكثر من 16 عاماً على زوال سلطة “جمهورية الخوف” بمواجهة تحدي صناعة “المعنى الجديد” لوضع الاساس للعيش المشترك وفقاً لعقد اجتماعي وسياسي وقيمي، ينتشل مشحوفنا المشترك من المستنقع الذي انحدر اليه.
لقد كشفت جريمة قتل وسحل وتعليق وذبح الفتى ذو الخمسة عشر عاماً في الوثبة؛ خطورة النبش بهذا الارث الهمجي، كما انها عصفت باقنعة الكثير من حطام البشر، وبنحو خاص أولئك الذين اختاروا الحقل الثقافي مسرحاً لفضلاتهم الذهنية؛ حيث كشفت تعليقاتهم وكتاباتهم حول ذلك الحدث المشين، عن انحدار اخلاقي وقيمي تخجل منه سلالات الضواري والقوارض، حيث لم يكتفي البعض منهم بمواقف التشفي أو التبرير، بل عد ذلك انموذجاً لما سيلحق بـ “أعداء الثورة” وممثلي الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد امور عراق ما بعد زوال النظام المباد. هكذا وبكل خفة واستهتار تدفع زمر الحبربش هذه الاوضاع باتجاه المزيد من التصعيد والوعيد والتهديد، في بلد آخر ما يحتاجه استقبال أجيال جديدة من قرقوزات المغفور له روبسبير. المعنى الجديد الذي يحتاجه العراق؛ هو كل ما يمثل الضد النوعي لذلك الارث الهمجي والاجرامي الذي اشرنا اليه، الى ما عجزنا عن صناعته جميعاً، أي اللغة المشتركة والجسور التي تمهد لولادة عراق آخر متخفف من سلالات المعطوب والمذعور وتبادل الادوار بين الضحية والجلاد…
جمال جصاني