شكيب كاظم
أصدر الشاعر والباحث والمقالي الجميل فوزي كريم ( 1945-17-5-2019)، كتابه الأول سنة 1972 ووسمه بـ( من الغربة حتى وعي الغربة) وصدر في ضمن سلسلة ( كتاب الجماهير) التي كانت تصدرها مديرية الثقافة العامة بوزارة الإعلام العراقية، قبل ذلك بسنوات ثلاث نشر مجموعته الشعرية الأولى وسماها (حيث تبدأ الأشياء) ولهذا الإصدار قصة طريفة يسردها علينا فوزي كريم في كتابه المهم (مراعي الصبار) الذي أصدرت (دار المدى) طبعته الأولى سنة 2015، وتحديداً في الفصل الذي خصصه للحديث عن صديقه الأثير الشاعر الصاخب المشاكس؛ قليل النتاج وافر التنظير والصخب ( شريف الربيعي) بدءا ببغداد وانتهاء بمشفى ايلنك اللندني، حيث رقد شريف ليعالج من ذلك الخبيث الذي استمكن جسده، حتى أطلق روحه منه في العاشر من أيلول/ سبتمبر 1997.
إذ انعقدت أواصر صداقة بينهما منذ بدايات عقد الستين من القرن العشرين، أراد فوزي تتويجها بإصدار مجموعة شعرية مشتركة بعنوان ( صوتان من المدينة) طافا بها على المطابع ومقرات الصحف فما وجدا من ينشرها لهما، فما كانا معروفين في الوسط الثقافي، والدنيا حرب، تحيا تحت وطأة كارثة حرب حزيران/ يونيو 1967، ولعل ثمة من داعب نرجسية شريف الربيعي، فكيف يرتضي لنفسه أن يغامر بنشر نتاجه الشعري، مع شاعر مازال يتلمس دربه، ومازال يجلس على حافة الستينيين، ولم يسهم في حفر مجراهم كما فعل شريف الربيعي اوانذاك؟!
قال فوزي كريم: أخذت نصف الدفتر، وأضفت إليه بقية القصائد، ونشرته تحت عنوان (حيث تبدأ الأشياء) في حين أهمل شريف مجموعته حتى يوم مماته (..) المدهش أن شريف ظل محتفظا بنصف الدفتر ذاك بخط يدي، حتى سنوات إقامته الأخيرة في لندن». تراجع ص105
أخذ فوزي مخطوط مجموعته الشعرية هذه إلى الباحث حميد المطبعي (توفي 2018)،الذي كان يواصل بمثابرة ودأب قلما يتوفران لآخرين، إصدار مجلته ( الكلمة) الأثيرة والمهمة في حراك الثقافة العراقية أواخر عقد الستين من القرن العشرين، وبداية العقد الموالي، فنشرها في ضمن مطبوعات المجلة سنة 1969.
وإذ حرص فوزي كريم على إعادة طبع عديد مؤلفاته، فإنه ما أعاد طبع هذه المجموعة الشعرية، فضلاً عن كتابه الأول (من الغربة حتى وعي الغربة) وهذا الأمر يدفعنا للوقوف عند معضلة شغف الأدباء الشباب بالنشر، حتى وإن كان جافيا غثاً، حتى إذا خفتت فورة الشباب، واستوى عودهم وقوي، قعدوا يراجعون ذواتهم، والسؤال المقلق يؤرقهم: أما زال هذا النشر الأول يمثلنا؟ إذن فلنحجبه عن أعين القراء مادام كذلك.
تخريج مقنع طريف
هذا التساؤل الذي عاناه أغلب الأدباء يعيد لذهني التخريج الذي سوغ به الدكتور سهيل إدريس؛ صاحب مجلة (الآداب) إعادة نشر مجموعاته القصصية الثلاث ( أشواق) 1947 و( نيران وثلوج)1948( كلهن نساء)1949،التي تمثل بداياته القصصية، وهو تخريج طريف ومقنع.
قال الدكتور سهيل إدريس: تذكرت تلك المجموعات الثلاث الأولى التي نسيها القراء، وكدت أنساها معهم، فخطر لي أن أعيد نشرها، ولكني إذ رجعت اقرأها من جديد، أحسست بعدم الرضا عنها وحكمت أنها لا تمثلني بعد، بيد أني توقفت عند مضمون هذه العبارة، لا تمثلني بعد، اذن كانت تمثلني من قبل، فهل يحق لي أن أسقطها من حساب التطور الذي مر به هذا الإنتاج؟!».
في حين قرأت في سيرة المؤرخ البريطاني الشهير الماركسي اليهودي ( اريك.ج.هبزبوم)(1917-2012)، انه ما نشر شيئا حتى قوي عوده، وان أول ما نشر بحثه لنيل الدكتوراه من جامعة كمبردج سنة 1948.
لأمر ما لم يعد فوزي كريم طبع كتابه الأول (من الغربة حتى وعي الغربة) الذي اشتمل على خمس دراسات، نشرت بدءا في مجلات (الكلمة) و(شؤون فلسطينية) و(الأقلام) و(المثقف العربي).
في هذه الدراسات، درس فوزي كريم، هو الذي يخبرنا- بتواضع- إن هذه الدراسات الصق به شاعرا، من أن تكون وجه الناقد المتخصص، الذي لم أتعرف عليه في نفسي بعد، درس معلقة الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة العامري، مشيداً بجهود الدكتور طه حسين (1973) الذي تناول المعلقة ذاتها بحديث من أحاديثه الأربعائية، مطففاً من كيل أستاذي الدكتور بدوي طبانة الذي درس هو الآخر المعلقة اللبيدية عينها.
في حديثه النقدي الضافي عن القصة القصيرة العراقية أوانذاك يفصح فوزي كريم عن إمكانات نقدية جيدة، ونظرات حاذقة صائبة، أكدت الأيام صحة توصلاته، فهو يقف عند أسماء عديدة، مشيراً إلى ضعف هنا وارتباك هناك، وحشو وإقحام هنالك، فضلا عن فقر في اللغة، هذه الجرأة في النص على هذه الأسماء التي كانت تتصدر المشهد القصصي في ستينات القرن العشرين تحسب له وتجير لإخلاصه ودقته، في حين أشاد ببعض الأسماء مثل القاص والكاتب المسرحي جليل القيسي، ولا سيما مجموعته القصصية (صهيل المارة حول العالم) التي نشرتها دار النهار ببيروت سنة 1969 منوها بقصته (زليخة: البعد يقترب).
كما يشيد بالمبدع الشاهق محمد خضير قائلا: محمد خضير، وجليل القيسي، كاتبان ممتازان، فأنت تنتظرهما بشوق (…) إذا صدق القول في كتاب القصة القصيرة الشابة إنهم يتعجلون إبداء آرائهم، ودفعها مقرفصة باردة أمام القارئ، يصدق خلاف ذلك على محمد خضير، فهو يتريث، وهو يعدك منذ البداية بشيء حقيقي، ولكنه لا يستعجلك عليه، لأنه يجعلك تتسرب إليه بلذة تستحق أن تشير إلى صاحبها، (..) إن محمد خضير كاتب نثر من الدرجة الأولى (..) لقد دخل هذا الاسم أوساطنا فجأة وفرض نفسه عليها متسلحا بملكة جادة وبسعة أفق فنية…»». تراجع ص263
وإذ غمز قناة كبير نقادنا الأكاديميين، والأدق ما غمز بل أفصح، فإنه أشاد بالموهوب الكبير نجيب المانع الذي يغلب عليه الهدوء وتجنب إطلاق الأحكام، ومحاولة دائبة لخلق مسافات بينه وبين القصة الشابة.
أما لماذا لم يطبع فوزي كريم كتابه الأول ذاك (من الغربة حتى وعي الغربة) طبعة ثانية؟ فهو يعترف في إهدائه كتابه هذا لصديقنا المشترك الشاعر الرقيق؛ شاعر العمود والتفعيلة والشعبي محمد حميد الموسوي (1944-1978) الذي طواه الردى سراعا»» هذه الدراسات. أرجو أن لا تبدو جافة»» هذا الإهداء اعتراف بجفاف بعضها ولا سيما دراسته لقصيدة لبيد، ولغة الشعر الجاهلي الوعرة الحوشية هل ايقن بعد أن صلب عوده، ان هذه البدايات ما عادت تمثله وتضيف لمنجزه البحثي شيئا؟
هل مارس بعض الذين ورد ذكرهم من القصاصين، وقد تبوأوا مراكز متقدمة بمرور الزمن في الحركة الثقافية؛ الرسمية تحديداً، مارسوا ضغطاً عليه كي يعزف ويعزب عن إعادة طبعه، وكي يطوي عيبهم النسيان والزمان، بانطواء الكتاب هذا؟
هذه التساؤلات أو غيرها أو أحدها أسهم في حجب هذا الكتاب، الذي ما فتىء يقرأ على الرغم من السنين، والذي يمثل باكورة أعمال فوزي كريم وعلى مدى نصف قرن من الزمان هو عمره الإبداعي.
حاشية
الحديث الذي قرأته في حفل تأبين فوزي كريم الذي أقامه (بيت المدى للثقافة والفنون) بشارع المتنبي من رصافة بغداد، ضحى يوم الجمعة 25 من شوال 1440هـ-28من حزيران/ يونيو 2019 وأداره الأديب علي حسن الفواز، وتحدث فيه تباعا: الشاعر ياسين طه حافظ، والدكتورة نادية هناوي، والدكتور حسن ناظم.