قصة اهتمام العرب بعلوم اليونان في القرنين الثالث والرابع الهجريين، ونزوعهم نحو ترجمة كل ما أثر عنها للعربية، لهما أمران يستحقان التأمل حقاً. فقد أخرجت الفتوحات القبائل العربية من عقر دارها، وجعلتها على تماس مباشر مع أقوام أخرى سبقتها إلى الحضارة، وهذا هو أحد أهم مردوداتها على الإطلاق.
وقد أدرك العرب حينئذ، أن أعظم ما في هذه الآثار مؤلفات أفلاطون وأرسطو. فعنوا بها عناية خاصة، وقدموها على غيرها من الكتب. ولا شك أن مثل هذا الشعور الذي يبعث على الإعجاب، كان نتيجة الحاجة المحضة. فماتزال الحوزات الدينية حتى الآن توليها الاهتمام الأكبر. لأن الإلمام بها جزء من الاستعداد الطبيعي للحصول على الدرجات العلمية فيها.
لكن الواقع أن هناك تبايناً كبيراً بين الرجلين، ربما كان هو السر وراء تشتت الذهن العربي في تلك الحقبة. حتى أن مفكراً كبيراً بحجم الفارابي وضع رسالة في التوفيق بينهما. ولم يكن هذا الأمر وقفاً على العرب، فالمؤرخون الأجانب يعزون نهضة أوربا الحديثة إلى تحولها عن الاهتمام بأرسطو إلى أفلاطون. وقد صحب هذا الاتجاه العودة إلى لغة الإغريق، والاهتمام بدراستها من قبل الباحثين، بعدما كانت قد درست تقريباً، وانصرف الناس عنها، بشكل شبه تام.
لقد شهدت القرون الوسطى انحطاط الفكر الأوربي، وتراجع القيم الإنسانية. فكانت السيادة فيها، لفلسفة أرسطو التي ترجمت من العربية إلى اللاتينية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وقليل منها نقل من العبرية والسريانية. وقد فقدت مؤلفات أرسطو عند ترجمتها للاتينية الكثير من روحها. ومع ذلك فإن هذه المؤلفات، ولاسيما شروح ابن رشد عليها، لاقت اهتماماً كبيراً، وجرت مزاوجتها مع المسيحية بشكل بدا وكأن أحدهما لا ينفصل عن الآخر. ونشأ من ذلك مذهب فكري جديد اسمه «السكولاستك»، أصبح هو الفلسفة الرسمية للكنيسة في القرون الوسطى. وكان الرد على هذا المذهب في وقت ما يعد في نظر الكنيسة هرطقة أو كفراً. وقد أحرق عدد كبير من المفكرين الذين تناولوها بالنقد، أو أثاروا نقمة الناس عليها. كما زج بعدد آخر منهم في السجن أو تعرض للإذلال مثل العالم الإيطالي غاليلو.
لقد اقتبس الكثير من المفكرين المعارضين حججهم من مثالية أفلاطون. وحاربوا فلسفة ابن رشد، وأفكار توما الأكويني. وبات تصور العالم يخضع لمفاهيم أفلاطون عن العالم. وقد شعرت المسيحية أنها بحاجة ماسة إلى إطار فلسفي يمكنها من مواجهة التيارات الإلحادية التي بدأت في الظهور في عصر النهضة. ثم شرعت الأفلاطونية المحدثة بشق طريقها إلى عقول الزعماء الدينيين، حتى باتت جزءً لا يتجزأ من إرث الكنيسة الكاثوليكية.
كانت إعادة اكتشاف أفلاطون، مقدمة لتحرير العقل الأوربي من المفاهيم المدرسية، التي ساهمت مؤلفات أرسطو بإرسائها. وبات بإمكان الجيل الجديد أن يطور اعتقاداته بحرية. لكن ذلك كان على حساب ثقافتين اثنتين هما اللاتينية والعربية.
محمد زكي ابراهيم