مجموعة عودة الكومينداتور أنموذجا
د.عمار إبراهيم الياسري
شهد التجريب السردي نهايات القرن المنصرم اهتمام كبير بالمتعاليات النصية والعناوين والعتبات النصية وما إلى ذلك، والمتعاليات النصية هي مجموعة من العلاقات المتناظرة والمرتبطة مع المبنى الحكائي بصورة داخلية أو خارجية، وبمعنى أخر ما يجعل النص يشتبك في علاقة ظاهرية ضمنية أو خارجية ضمنية مع نصوص أخرى تسهم في تشكلاته، سواء كانت هذه النص مكتوبة او مسموعة او مرئية.
ويرى (جيرار جينت) في كتابه الاطراس أن المتعاليات النصية تتحدد في (التناص)، المتناص، المناص، معمارية النص)، وهو بذلك أول من أطلق مفهوم المناص على العتبات أو النصوص الموازية.
أن التعريف الدقيق لمفهوم المناص ، هو عبارة عن كل النصوص التي تحيط بالنص الأصلي وترتبط معه في منظومة بنيوية قارة، وتتسق معه بنسقين، الأول داخلي والثاني إشهاري خارجي ، فالنسق الداخلي يرتبط بعناوين الأغلفة الخارجية والعناوين الداخلية وصور الأغلفة والإهداء والهوامش والتظهير، في حين يرتبط النسق ألإشهاري الخارجي يرتبط بعلاقات النص مع الإشهار الورقي والمرئي من صحف ومجلات وإعلانات وإذاعة وتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي الالكترونية ، ومما لابد ذكره أن مفهوم المناص هو ذات المفهوم المرتبط بالعتبات السردية أو النصوص الموازية، لذا فأن عملية اختلاف التسمية لا تعني شيئا، فالناقد المغربي (سعيد يقطين) يذهب مع مفهوم المناص في كتاباته، في حسن يذهب مواطنه (محمد بنيس) إلى مفهوم النصوص الموازية.
ولو قمنا بتحليل مجموعة القاص (انمار رحمة الله) عودة الكومينداتور ونتوقف عند العنوان الرئيس في الغلاف الخارجي ونحاول فهم مستوياته الدلالية، نجد أن مصطلح الكومينداتور يعني في اللاتينية القائد ، وفي التراث الموسيقي هو القائد العائد من الجحيم ليعاقب جيوفاني المعروف بغواية النساء كما يرد في معزوفة الموسيقار الألماني(موزارت) حسب ما ذكر القاص ذلك في هامش متنه السردي، وقد استخدم القاص هذه المفردة الغريبة من اجل أن يترك اثر صادم في وعي المتلقي يبقى شاخصا معه على امتداد المجموعة من جهة، ومنسجمة مع النسق الغرائبي للمجموعة من جهة أخرى .
إن عودة الكومينداتور هي إحدى قصص المجموعة التي تدور حول الديكتاتورية والغطرسة، مما جعل هذه الدلالة المتناصة مع الميثولوجيا ومع موسيقى (موزارت) دلالة شمولية ترتبط مع نصوص المجموعة كلها، فالقسم الأول من المجموعة تضمن قصص العائد وليلة ضاع فيها الرصيف والعراة واللعنة وهذا ما حدث في المقبرة والساهر وقتلت عصفورا مرتين والسحابة ، وهذه العنوانات الفرعية تشي بمحمولات العنوان الرئيس ، فالضياع والعري والقتل والمقبرة بنى سطحية ترتبط بالبنية العميقة التي يشي بها المعنى الدلالي للكومينداتور، في حين تضمن القسم الثاني من المجموعة عدة قصص جاءت تحت عنوان رئيس هو قصص خطرة جدا، إذن لازال شاخص العنوان الرئيس ماثلا هنا، ومن عنوانات قصص القسم الثاني حكايات الجندي المعلق وسارق الأطفال وعودة الكومينداتور والصياد والسمكة والمتلصص وجمهورية بلا معنى وغيرها، وهي بذات الحمولات الدلالية للقسم الأول، ولكن القاص حاول أن يترك لنا بصيص من الأمل في القصص المتبقية مثل طفل وجدار والبائع المتجول وانظروا إلى التلفاز، في حين جاءت صورة الغلاف على شكل كائن غريب غارق في الفنتازيا، فالعينين غير المتوازنتين دلالة على النظرة الكونية غير المتوازنة التي خلفتها الدكتاتوريات، أما الأيدي التي رسمت بشكل كبير غارق في الدماء كانت تشي بالوحشية والقتل والدمار التي أفرزتها فلسفة التسليع والاستهلاك، والتي تحول الإنسان معها إلى وقود للمعارك قبل المصانع، وقد أعتمد القاص في نهاية المجموعة على تظهير حمل شهادات لثلاثة سراد هم (وارد بدر السالم وحامد فاضل وعلي حسين عبيد) قبالة ناقد واحد هو (بشير حاجم)، كانت شهادة السراد تتفق على دراسة التجليات الفلسفية والغرائبية للمجموعة وكيف استطاع القاص أن يوظفها بنجاح، في حين تحدث الناقد (بشير حاجم) عن الاشتغال التقني والجمالي الواعي للقاص ، والقاص ذهب إلى تغليب رأي السراد على النقاد من حيث الكثرة، لأنه يميل إلى صناعة مشغل جمالي يحاور به ممتهني الكتابة السردية، وهنا ينتهي الحديث عن النسق الداخلي.
أما النسق الثاني الاشهاري الخارجي، فقد أشتغل فيه القاص على فعل القراءة، إذ يذهب منظرو الدراما إلى أن الفرق بين الملحمة والرواية وبين الدراما هو أن الدراما فعل الخبر في حين أن الرواية والقص عموما هي خبر الفعل، وهنا ولج القاص فعل الأدرمة حينما قام بتوظيف – السوشيال ميديا- مثل الفيس بوك واليوتيوب في إشهار نصوصه، ليقوم من خلالها بقراءة النصوص على وفق البناء الدرامي موظفا الإلقاء بكل تمفصلاته مثل التهكم والتعجب والغضب والفرح مراعيا في ذلك تحولات الحدث من المقدمة المنطقية للأحداث إلى تمظهر الصراع فاشتداده فالأزمات فالذروة وصولا إلى الانفراج، مستخدما المؤثرات السمعية في ذلك، ولو تابعنا نصه عودة الكومينداتور المنشور في اليوتيوب والفيس بوك نجد أنه استحضر موسيقى (موزارت) التي تحمل ذات الاسم موشجا ما بين التوتر الموسيقي والتوتر الدرامي كي يصل بالمتلقي إلى أقصى مديات التماهي، ومن خلال هذا النسق الاشهاري نلحظ أن القاص لم يشتغل على تسويق نصه فقط؛ بل عمل على خلق إشكالية تجنيسية بعد أن اخرج بنية القصة من برجها النخبوي الكلاسيكي إلى المتلقي الشعبي بطريفة تفاعلية، أي انه يسر على المتلقي مهمة التلقي وقدم له أداء دراميا مع مؤثرات سمعية وسط فضاء تفاعلي يتداخل به المنصوص له مع الناص من اجل صياغة نصوصية جديدة وهذا ما تسعى له سرديات ما بعد الحداثة .
ومما تقدم نستطيع أن انمار رحمة الله يمتلك وعي سردي تجريبي فعال ساعده في ذلك حمولاته المعرفية بالسرد والموسيقى والسينما وما أحوجنا اليوم إلى مجربين حقيقيين لكسر الرتابة والملل في البنية السردية.