لا يحتاج المرء إلى جهد كبير ليكتشف أن المستشرقين الأجانب، الذين أولوا الحضارة الإسلامية جل اهتمامهم، عنوا عناية فائقة بالمخطوطات العلمية، المتناثرة في مكتبات العالم، وأعجبوا أيما إعجاب بما فيها من ابتكار. فلم يوفروا جهداً من أجل إخراجها للنور، لأنها إرث عالمي لا يخص أمة دون سواها، أو بلداً دون غيره، كما هي حال العلوم في كل زمان ومكان.
يرجع سبب اهتمام هؤلاء المستشرقين بالتراث العلمي المكتوب غالباً باللغة العربية، إلى إيمانهم أن العلوم الطبيعية هي صانعة الثقافة المشرقية، مثلما هي صانعتها في بقاع العالم الأخرى. وهي التي غيرت نمط الحياة وحفظت الناس، وأوجدت ظروفاً مناسبة للعمل والخلق والإبداع.
ولقد دخل في روع الكثيرين لدينا أن عناصر الثقافة الحقيقية تنحصر في الفنون والآداب، دون غيرها من المعارف الإنسانية. وأن صانعي الثقافة هم الشعراء والروائيون والمسرحيون والفنانون التشكيليون ورجال الإعلام والموسيقيون .. فحسب.
غير أن هؤلاء جميعاً لم يكونوا قادرين على إنتاج عمل ما دون جهد تقني أو علمي. ولعلهم كانوا سيظلون عاجزين عن إحداث أي نقلة نوعية في الثقافة.
فلولا الطباعة لما كان بإمكانهم نشر الكتب أو إصدار الصحف أو توزيع الإعلانات. ولولا الكهرباء لتعذر عليهم تقديم أي عمل سينمائي أو تلفزيوني. ولولا وسائط النقل لبقيت النتاجات الفنية حبيسة المخازن والمكاتب وورش العمل الخاصة.
كما قدم الحاسب الآلي خدمة كبرى للثقافة، مثلما قدم خدماته الجليلة لكل صنوف المعرفة الأخرى. وجعل الثقافة المكتوبة والمسموعة والمرئية تصل إلى كل بيت. فالثقافة قبل ابتكار الحاسب هذا شئ، وبعده شئ آخر. لقد غير حياة الناس إلى الدرجة التي باتوا معها غير قادرين على الاستغناء عنه في الليل أو في النهار.
هناك ترابط عضوي بين مجالات الحياة كافة. فبفضل إسهامات الأطباء والعلماء والمهندسين والصناع غدت الحياة أجمل من ذي قبل، وباتت الأعمال الثقافية أكثر انتشاراً وتأثيراً من أي وقت مضى.
لقد أحصى بعضهم الأوصاف التي أطلقت للتعريف بالثقافة فوجد أنها تزيد عن 60 تعريفاً. وهذا أمر غير مسبوق لكلمة مولدة لم تعرفها العربية قبل عام 1927 تقريباً. مثل هذا الاتساع لم يكن ليحدث لو لم تتطور المعارف الإنسانية المختلفة وتتنوع فروعها إلى الحد الذي بلغته اليوم.
ولا بد أن الثقافة ستكون أعمق تأثيراً، وأعظم خطراً، عندما تلتصق بحياة الناس. وستكون أكثر أهمية عندما تسعى إلى ملء أفئدتهم وعقولهم بكل ما هو حديث وراق.
إن صناع الثقافة في كل مكان من العالم هم الذين يحاولون تقديم الجمال والمتعة والذوق إلى أفراد المجتمع دون استثناء، وهذا الأمر يسهم فيه الجميع، عمالاً وفلاحين ومنظفين وطباخين وأدباء وفنانين وكل فئات المجتمع الأخرى. ولا شك أن عملاً جماعياً بهذا الشكل المبهر هو ما يميز الثقافة عن سواها من الأفعال.
محمد زكي ابراهيم
صناع الثقافة
التعليقات مغلقة