ليس بوسعي أن أفهم سبب وجود مدارس أدبية كثيرة في المنطقة العربية. أو أجد مبرراً لاختلافها إلى درجة القطيعة. فقد نشأت جميعاً في حقب متقاربة لا تسع مثل هذا الاختلاف، ولا تشجع عليه.
ولاشك أن لدى الأدباء العرب من الفصاحة ما يستطيعون به رد أي تهمة من هذا النوع. وأن يختلقوا حججاً لتسفيه أي دعوى بهذا الخصوص. ولكنهم غير قادرين بالطبع على إثبات أن ظهور هذه المدارس كانت ضرورة من ضرورات الحياة اليومية.
والحقيقة أن المذاهب الأدبية التي ولدت في أوربا، جاءت استجابة لظروف التطور التقني – الاجتماعي . فالحياة حينما تتغير، تتغير معها الأمزجة والعقول والأذواق. وتؤدي إلى بروز ظواهر ثقافية، لم تكن مألوفة من قبل.
وقد أنتجت الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789 تيار الرومانسية بطرحها شعار حرية عدالة مساواة. ولم يكن مثل هذا الشعار وارداً في العصر الفيكتوري الذي شهد تسلط ثلاثي الملك والكنيسة والإقطاع. فغدت الرومانسية أمل الشعوب المقهورة بمواجهة الاستبداد، وباتت تبشر بالحرية، وتدعو للثورة. مثلما فعل (ووردزورث) و(كولريدج) و(بايرون) وغيرهم.
ولكن الرومانسية لم تهنأ بربيعها هذا، فانقضت عليها الواقعية، وسلبتها مركزها هذا. وإن كانت في الأصل صورة جديدة منها. وكان ذلك منطقياً، بعد النهضة العلمية الواسعة، وبروز الطبقات الاجتماعية الجديدة . فجاءت كتابات (فلوبير) و(بلزاك) و(ديكنز) و(زولا) وغيرهم صورة ناصعة لهذا الحدث العظيم.
ولم يكن حظ هؤلاء بأفضل من حظ من سبقوهم، فقد داهمتهم الرمزية على حين غرة، بعد أن عجزت المادية رغم إنجازاتها الباهرة عن كشف دخائل النفس، أو هتك أسرار الكون. وظهر الرمزيون الكبار في القرن ذاته أمثال (بودلير) و(أدغار آلان بو) و(ميلارميه) وسواهم.
وإذا كان الأمر كذلك فإن المرء يستطيع تفهم ظهور الرومانسية العربية متأخرة في عشرينات القرن العشرين على يد جماعة الديوان في مصر والرابطة القلمية في المهجر، ثم مدرسة (أبولو) في مصر والبلاد العربية، بسبب مناخ الحرية النسبية بعد الحرب الأولى.
لكن العرب كانوا يفتقرون إلى نهضة علمية ولو بقدر متواضع في الأربعينات والخمسينات، ومع ذلك ظهرت الواقعية، والواقعية الاشتراكية على يد نجيب محفوظ وطه حسين، ثم انتقلت منهما إلى عبد الرحمن الشرقاوي، وفتحي غانم، وغائب طعمة فرمان، وصلاح خالص، ورئيف خوري، وعمر فروخ..وعشرات الأسماء اللامعة الأخرى!
ومع أن الواقعية هذه رفضت المثالية وأصرت على تقديم الإنسان كما هو، إلا أنها لم ترو شغف العرب إلى التغيير، فلجأ شعراء (الحداثة) من أمثال السياب ونازك والبياتي وعبد الصبور وفدوى طوقان وسواهم، إلى الرمزية بعد سنوات قليلة..
كان ظهور مثل هذه المدارس وغيرها لدينا منطقياً لو أننا مررنا بذات التجارب التي مر بها الآخرون. ولكننا لم نفعل ذلك حتى الآن. فلا غرابة أن نحصل على نتائج مغايرة، وأن نأتي بعروض متواضعة، وأن لا تكون لنا شخصيتنا المتفردة مثل سائر الشعوب في هذا العالم.
محمد زكي ابراهيم
مدارس أدبية
التعليقات مغلقة