يوسف عبود جويعد:
وسط هذا الانفتاح الكبيروالحر، الذي شهدته الساحة الثقافية والادبية في العراق، الأمر الذي أتاح لي فرصة متابعة حركة تطور المسيرة الادبية الابداعية، بكل اجناسها بشكل عام، والرواية بشكل خاص، ولكثير من الروائيين الذين مازال عطاؤهم مستمرا، ومازالوا يرفدون الساحة الأدبية بمنجزاتهم، ومن بين هؤلاء الروائي علي الحديثي، الذي قدم منجزه الروائي الجديد (ذَكْرَأة) لكي ينضم الى ما قدمه من روايات، ليكون هذا المنجز الرابع ضمن مسيرته الأدبية الإبداعية في فن صناعة الرواية، والتي شهدت تطوراً ملحوظاً من حيث استخدامه لأدوات السرد والتقنيات الحديثة، التي دخلت في هذا الجنس، الا أنه لم يغادر النمط أو الاسلوب الذي اتبعه سياقاً فنياً لتدوين نصه الروائي، إذ اعتمد على أدب السيرة في كل أعماله الروائية، وهو واحد من الأساليب المتبعة في تدوين النص، كونه وجد في ذلك ما يجعله أكثر حرية للتحرك عبر المساحة التي أعدها مبنى سردياً، كما أنه من خلالها يستطيع أن يزجّ كل ما يجول في خاطره من خلجات ومشاعر وتداعيات وأفكار كبيرة بدلاً أن تظل تدور في رأسه دون أن يجد لها مخرجاً، كما أن التجارب الحياتية التي يعيشها الروائي ويمر بها في مراحل حياته، تكون أكثر قرباً، وأكثر تأثيراً، وتصل الى المتلقي معتقة في حزمة كبيرة من التأثيرات والتفاعلات التي تجعل من النص مادة تنبض بالحياة، وهي عكس ما نحسه في الأحداث المتخيلة التي قد تكون أحياناً جامدة خالية من الحياة، وهو لا يعتمد (أي الروائي) على الأحداث التي مرت بحياته بشكل شامل، وإنما يستقطع منها ما هو صالح ليكون مادة خامة للنص، والذي سوف يدخل في عدة معالجات فنية عبر الخيال، ليخرج بعدها وفق الثيمات التي أراد لها أن تكون، في رواية (ذكريات معتقة باليوريا) يقتنص لنا الروائي لحظات مهمة في حياتها، وكان أهمها عملية اعتقاله من قبل الامريكان وحياته داخل المعتقل، بينما نجد في رواية (جئت متأخراً) يستقطع لنا أحداثا مهمة أيضاً من حياته، ولكن أهمها وفاة أمه التي كان لها دور كبير في حياته، أما رواية (ارفعوا صوت التلفاز) فإنه يقدم لنا رؤية جديدة بكونه يضع أمامنا حياة البلد في كل متناقضاتها، والإنسان الذي لا يملك الارادة من أجل أن يعيش كيفما يشأ، ثم نصل الى رواية (ذَكْرَأة) التي انتقل فيها من حالة التأزم في البلد، إلى حيث إشراقة أهمّ برغم تضمين هذا النص حادثة اعتقاله الثانية في شمال العراق، ولكن البؤرة الرئيسة التي تحتوي الأحداث، هي تلك العلاقة الإنسانية الأزلية, التي تنشأ بين المرأة والرجل، وتلك العاطفة التي تحيل كل شيء إلى حلم جميل، حيث استطاع الروائي أن يتنوع في عملية السرد، فنجده أحياناً يقدم لنا الأحداث من أعماق روحه وتأثير الأحداث عليه، ثم ينتقل إلى سطح الأحداث ليقدم لنا المسيرة السردية بواقعيتها، ولكنه وضع أمام المتلقي شغل شاغل يشحن ذهنه ويجعله مشدودا بالمتابعة، وهي ذَكْرَأة التي تعني الحروف الأولى من الذكر أي الرجل والحروف الاخيرة من المرأة، الا أننا لا نجدها كما هو واضح لنا، بل هي أشبه بلغز تحتاج الى تأمل كثير من أجل معرفته:
الذاكرة .. المرأة
( ذَكْرَأة، هذه الكلمات سيرة أخطبوطية لكائن لا أحد يعرف متى.. كيف.. أين.. لماذا وُلد؟ هو ولد وانتهى الأمر..
كبر.. ومازال يُولد.. يعيش بلا مكان في كل زمان، وإن قلت إنه يعيش بلا زمان في كل مكان فهو صحيح ايضاً.. يحمل ملايين الوجوه.. وجهك.. وجهي.. صخب البحر.. ثورة الريح.. صمت القبور.. نبض العشاق.. وهز الوسط.. ويبقى بلا ملامح، ولك الحق أن تقول إنه يحمل كل الملامح على تشرذمها..)
وهكذا فإن بنية العنونة ترافق النص في مساره، قد تكون ذَكْرَأة, هي المرأة التي تعيش في عقل ووجدان وروح الإنسان، أو قد تكون علاقاته العاطفية التي مضت، أو تلك التي تتحداه, أو صرخة الحرمان التي هي داخل الإنسان، ولها تفاسير كثيرة قد يجد المتلقي تفسيرا آخر لها، وهكذا أرادها الروائي، كما يظهر في هذا النص أسلوبا آخر جديدا في تناوله، وهو عقد الصداقة بين الروائي والنص والمتلقي، وهو أسلوب حديث في المسيرة السردية، ولكي يساهم في توضيح النص، فقد جعل الفصول قصيرة وبعناوين ترتبط ووحدة موضوع الفصل.
وهكذا نكون مع انطلاقة الأحداث في هذا النص, ونمرّ بتفاصيل دقيقة روحية وحسية وشعرية وتداعيات تنبع من أعماق الإحساس بالخوف من المجهول, في تفاصيل عملية اعتقال بطل هذا النص, ويشكل خروجه من الاعتقال اشراقة لمعرفة تفاصيل تخصّ حياته العاطفية، سواء تلك التي سكنت دهاليز الذاكرة، أو تلك التي طفت على سطح واقعية الأحداث، تتخللها صرخات مكبوتة لواقع الحياة، فتنشأ علاقة حب شفيفة رقيقة بينه وبين ليلى، التي سوف يكون لها دور كبير في متن النص، بعد أن نعرف حكاية خاله التي ترتبط بأحداث تلك العلاقة، حيث سنكتشف أن ليلى ابنة المرأة التي أحبها خاله, أيام دراسته في الكلية، ونعيش تفاصل حالة حب أخرى عبر تلك الحكاية التي هي حالة متممة للحبكة، ونكتشف بعدها أن ليلى ليست الابنة التي خرجت من رحم الأم، وانما هي من رجل يهودي أراد حمايتها من الموت فأودعها تلك العائلة لتكون الابنة بالتبني، وتدخل ذكرأة لترافق عملية سير الأحداث، يكتنفها الغموض لأنها تسكن عقله، وتظهر في مواطن متعددة من النص.
( – ليس لذَكْرَأة وجه واحد معي، لكنها اليوم جعلتني كقارب منهك وسط بحر لجي، لا شاطئ الوذ به، كلما رميت شبكتي لأصطادها اكتشفت أن شبكتي أصغر من أن تحـتويها) ص83
الوعي والعلاقات الانسانية
تخلل متن النص حالة من الفلسفة الواعية لمحاور الحياة الأساسية ونظرته للدين من منظور هذا الوعي.
(أنتم بفتاويكم تعيدون طقوس من تسمونهم بالمشركين بثوب مزّوق لا يستطيع أحد خلعه ..اسمه (الله) الفرق هم يتقربون بذبح إنسان واحد، وأنتم تتقربون بذبح آلاف الناس، هل تظن أن هؤلاء الناس يكرهون الله، أخرج إليهم وأسألهم عن (الله) فسترى كم يحبونه ويريدونه، لكنّ علماءكم الذين من المفترض أن يكونوا طريق الناس إلى الله أصبحوا سداً منيعاً يقف بينهم وبين الله، تريدون من الناس أن يراجعوا أنفسهم في المعاصي، والناس تريد منكم أن تراجعوا أنفسكم في القتل) ص81
كما يضع لنا الروائي وعبر متن النص الرؤية الواعية التي يحسّها، عن الأغاني وهو يقول عنها ليس هناك نص في القرآن يحرم الأغاني، وكانت تلك الأغاني تنمي العاطفة والحب والسلام بين الناس، وعلية يتمنى انتشارها بذلك النسق الفني الجميل والكلمات والألحان التي تثير الشجن والحب، هي إعادة لبذرة الحب والخير في الوطن.
وهكذا تنتشر واحة خضراء تحيطها الزهور الزاهية، ونحن نتابع تلك العلاقة الإنسانية النبيلة، بين عمار بطل هذا النص وليلى والتي سوف نعيش معها بهذا الحسّ الذي يثير البهجة والسرور:
(قفزت من مكانها لتعتلي صخرة عالية، فاتحة ذراعيها نحو الأعلى، كطير يفتح جناحيه للفضاء ليحلق، وهي ترفع صوتها:
– سنحيا.. سنغني.. سنرقص.. وليذهب من يريد قتل طفولتنا إلى الجحيم..) ص117
وهكذا ولأننا أمام عملية مقارنة بين قصتَي الحب التي تخللت متن هذا النص، فإن ليلى تجيب على هذا السؤال:
( – المكان.. الزمان.. الوجوه.. هذا هو الثالوث الذي تغير بيني وبين أمي.. عندما بدأت الحرب الطائفية هنا كان عمري ثلاث سنوات، في لبنان منطقة معروفة وبعض الأماكن الأخرى يسكنها اليهود، إلا أن جدي رفض أن يسكن فيها خشية أن تكون هناك بلابل فيها لترغمهم على الهجرة إلى إسرائيل، فاختار منطقة ذات طابع مسيحي، كان يقول إن الهجرة إلى إسرائيل ستحسم أمرنا، وأنا لا أريد أحسم أمري، فلو بقي يوم واحد من عمري لرجوت العودة فيه إلى بغداد.. هل تصدق؟) ص149
وأخيراً نجد الجواب المفقود لذَكْرأة في السطور الأخيرة من هذا النص.
( صمتت قليلاً، لتقول بعدها بطريقة من شعر بشيء من الارتياح..
– ياعمار.. ومن وجد نصفه فلا حاجة له بذَكْرأة بالنسبة لي أنا وجدت نصفي…..
قالت جملتها الأخيرة بطريقة كأنها تقول لي (فهل وجدت أنت نصفك..؟) لتختم كلامها:
– أنا وأنت لا نختلف إلا بتلك النتوءات ياعمار…والآن أيها الشرقي .. هل وصلت الفكرة؟) ص 153
وهكذا فإن الروائي علي الحديثي ومن خلال روايته (ذَكْرأة) يؤكد لنا أن التجديد والتحديث في النص الروائي لا يكمن في عملية التلاعب بالأدوات السردية التي تعطيه جنسه وهويته، ولا بالانتقالات الكثيرة واختيار الأنماط لأدبية، وإنما يكمن في حالة الوعي وملاحقة حالة التطور التي تكمن بمتغيرات الحياة .
من إصدارات دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع _ سورية – دمشق لعام 2019