رحلة ستين عاماً من التكية الى قصر السلام
( لقاء العمر)
الحلقة 32
تضع “الصباح الجديد” بين يدي القارئ الكريم ما يمكن أن يوصف بمذكرات للرئيس الراحل جلال طالباني، وتتميز المذكرات وهي عبارة عن بوحٍ متصل للأستاذ صلاح رشيد، بأنها صورة مفصلة بل تشريح سياسي لمرحلة حاسمة في تاريخ العراق تشمل السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وحتى يومنا هذا.
وعلى عكس ما عُرِف عن مام جلال من دبلوماسية ونزوع نحو التسويات التي عرف بها خلال ثماني سنوات من جلوسه على مقعد رئاسة الجمهورية العراقية، فأنه على العكس من كل ذلك يدلي بآراء في غالبيتها إشكالية، ونحن لا نتحدث عن المعلومات وسرد المعطيات التاريخية لعلاقته بصدام حسين وفرقه المختلفة للتفاوض مع الاكراد، بل أنه يتجاوز الى العلاقة مع إيران وسوريا والولايات المتحدة وبقية الأطراف التي كان لها تماس مع الملف العراقي في مراحله المختلفة، لكننا نتحدث عن الآراء المتعلقة بالشخصيات التي رافقته خلال مرحلة بناء الاتحاد الوطني الكردستاني وتشكيله للبؤرة السياسية في اعقاب عام (1975م) وهزيمة الثورة الكردية أثر اتفاق الجزائر بين الشاه وصدام.
وتشكل المذكرات إنارة معمقة للطريقة التي اتبعها مام جلال في معالجته للتحديات والحلول التي خرج بها لتجاوزها، ولكنها لا تخلو أيضًا من اضاءة البعد الشخصي لمام جلال مما يساعد في نهاية المطاف الباحثين السياسيين والمواطنين على حد سواء العرب والاكراد على الاطلاع على أسرار لم يجرِ التطرق اليها في الماضي.
وغني عن القول أننا في “الصباح الجديد” نعدّ هذه المذكرات شهادة تاريخية من شأنها أن تستكمل المشهد السياسي العراقي الراهن، وهي تنطوي على مفاجآت وطرائف لا يمكن لأحد من خارج الدائرة الضيقة لمام جلال أن يطلع عليها.
“الصباح الجديد” سوف تنشر القسط الأساسي من هذه المذكرات، وهي لا تتحمل مسؤولية أي آراء قد تنطوي على بعض القسوة هنا وهناك، وستحاول تخفيفها بقدر الإمكان، ونأمل أن يتجاوب الساسة الكرام في كردستان وفي الفضاء العراقي من خلال هذه العملية ويسهموا بدورهم في إضاءة بقية المشهد.
إعداد: صلاح رشيد
ترجمة: شيرزاد شيخاني
مشاركة المكتب السياسي في تشكيلة البعث
* هناك تصورات بأنه كانت هناك خلافات وسط البعثيين في ذلك الزمن تجاه حل القضية الكردية، هل هذا صحيح؟
– نعم هذا صحيح، فقد كان هناك تياران مختلفان،
الأول: هو التيار الذي يمثله عبدالخالق السامرائي وعبدالله سلوم السامرائي وصالح مهدي عماش، ومن البعثيين القدامى شاذل طاقة ومرتضى الحديثي وعبدالكريم الشيخلي الذي عين وزيرا للخارجية ثم قتله صدام حسين، هؤلاء كانوا مع الإتفاق وكان أكثرهم حرصا هو عبدالخالق السامرائي الذي يؤمن بأن في العراق قوميتين هما العرب والكرد، وكتب سلسلة مقالات قال فيها “ان الشعبين تعرضا للتقسيم، فكما العرب هم جزء من الأمة العربية، فالكرد هم جزء من الأمة الكردية. وعلى هذا الأساس يجب أن نمنحهم حق الحكم الذاتي وبذلك سنقوي العراق ونستطيع عندها أن نحول العراق الى مركز موحد تنطلق منه الإنتفاضة الشعبية العربية و الكردية، ومن دون ذلك لا يمكن أن تحل المشاكل القومية للشعبين”. كما كان موقفه من الملا مصطفى سلبيا ويراه رجلا رجعيا وله علاقات مع إسرائيل.
الثاني: فقد كان يمثله صدام حسين وأعوانه مثل سعدون شاكر وطه الجزراوي وغيرهما ينظرون إلينا بعين الخشية ويعتبروننا خطرا عليهم، ويقولون “إن الحزب أخطر من البارزاني، لأن البارزاني شخص واحد نستطيع إحتواءه أو قتله فينتهي الأمر، أما هؤلاء فحزبيون لهم جماهير ومطالبهم ليست أقل من البارزاني بل أكثر منه بكثير”.
هناك حديث سأرويه لك وللتاريخ، حدثني فؤاد عارف “أن صدام أرسل بطلبه وقال له “أريدك أن تذهب الى الملا مصطفى”، فأجبته “لكن أنتم لكم علاقة بجماعة الحزب”! فقال “أي جماعة! هؤلاء أخطر من الملا مصطفى، الملا لايتحدث عن الحكم الذاتي، ولكن هؤلاء لايرضون حتى بالحكم الذاتي بل يتحدثون عن الفدرالية”، ويبدو أن طرحنا هذا كان له تأثير عليهم.
ونقطة أخرى أدت الى تباعدهم عنا، هي علاقتنا بعبدالناصر، فعلى سبيل المثال كنا نبعث ببرقيات إليه في مناسبات الأعياد، وننشر في جريدتنا “النور “أخبار معاركه بالصفحة الأولى فيما تمتنع الصحف العراقية الأخرى عن تغطية تلك الأخبار. وذات مرة إنتقد عبدالناصر البكر بذلك وقال في رسالة له “أنتم لم تشاركونا في حربنا فحسب، بل حتى لاتنشرون أخبار معاركنا في حين أن جريدة النور التي يصدرها أكراد وطنيون يهتمون بها”، وكانت جريدتنا هي الوحيدة التي تولي إهتماما كبيرا بتلك المعارك.
* وماكانت تأثيرات تلك الجريدة على الأحداث في تلك الفترة؟
– في الحقيقة كانت لجريدة النور شهرة واسعة، بل يمكن إعتبارها احدى أفضل جرائد ذلك الزمان تباع منها 30-40 ألف نسخة وكانت هذه الكمية كبيرة جدا في ذلك الوقت، فالمواطن لم يكن يهتم بجرائد الحكومة التي لم بكن لها طعم ولا رائحة. حتى ان منذر الموصلي أشاد بالجريدة في كتابه بعنوان “العرب والأكراد “قائلا “نحن اللاجئون السوريون في العراق كنا نطالع هذه الجريدة قبل الصحف العراقية الأخرى لأنها كانت أفضل الجرائد في تلك الفترة”.
إضطرام نيران الحرب الداخلية
*القوة التي إكتسبتموها في تلك الفترة هل أثرت في علاقتكم بالبارزاني أم بقيت هادئة كما كانت؟
– عندما إكتسبنا بعض القوة، قامت جماعة الملا بالتحرش بنا وجمعوا قواتهم لتصفيتنا، وأشاعوا بأنهم سيهجمون علينا في مقرنا الرئيس بمنطقة “بكرجو”. وهكذا تقدمت قواتهم بقيادة طاهر علي والي من منطقة طاسلوجة نحونا، لكننا تصدينا لهم وهزمناهم وطاردناهم.وقدمت الحكومة الأسلحة لنا وكنا في البداية حوالي 700-800 عنصر من البيشمركة ولكننا طورناها وأصبحت ما بين2000-3000 فرد، وكانت معظم مناطق شهرزور تحت أيدينا، وتطورت قواتنا أيضا في مناطق جمي ريزان وسورداش وسهل شوان وشيخ بزيني وسهل كويسنجق.
* وهل كانت لديكم خطط لمحاربة البارزاني، أم هم كانوا البادئين بقتالكم؟
– هم كانوا بادئين بالقتال، وكانت خطتنا تقضي بإستنزاف قواتهم، ولكننا إستطعنا أن نهزمهم في عدة محاور، وإمتد القتال الى مساحات أخرى، في بعض الأحيان كانوا هم يبادرون، وفي أخرى نحن نبادر، ولكن الغلبة كانت لنا لأننا كنا نسعى لتحقيق مكاسب سياسية لشعبنا الكردي. فالملا مصطفى أجرى إتصالات مع العديد من الحكومات المتعاقبة مثل عبدالسلام عارف وطاهر يحيى وعبدالرحمن عارف فلم يحقق شيئا، ولكننا في ظرف 5-6 أشهر من عقد الصلة مع البعثيين إستطعنا أن ننتزع منهم العديد من المكاسب السياسية لشعبنا.
كانت قواتنا منتشرة في العديد من المناطق، وكان العديد من المدن والأقضية توشك أن تقع تحت أيدينا وكانت لنا مقرات في معظم مدن كردستان ونقوم فيها بشتى أنواع النشاطات حتى أن مدنا في بهدينان كالعمادية ودهوك تحت سيطرتنا.
في نهاية العام 1969 إتصلت بالملا مصطفى عن طريق بعض الأشخاص الذين يأتوننا ويطلبون منا التصالح وإنهاء القتال والخلاف.فقلت لأحد منهم “حسنا إذهب أنت وكيلا عنا وأبلغ الملا مصطفى بإستعدادنا للتصالح، ولكننا نعرف بأن الملا لن يتصالح معنا، نحن الآن بوضع أفضل ومع ذلك نمد له يدنا للمصالحة”.
لكن أولئك الوسطاء لم يكونوا على ثقة مما نقول لأنه يوميا كان يلتحق بنا العديد من مسلحي البارزاني ووصل عدد بيشمركتنا الى ما يقرب من 4000 بيشمركة.
* ومن هو الشخص الذي إقترح عليكم التصالح مع البارزاني؟
– هوهمزة عبدالله الذي إتصل بي مباشرة، وكلف فؤاد عارف بالمتابعة، ولذلك حين إلتقيت بفؤاد في دار برهان بيك الجاف قلت له “إذهب كاك فؤاد وحاول معه، نحن مستعدون للتصالح”. وكان وضع الملا مرتبكا ولذلك وافق على مبادرتنا، كان رأينا هو أنه مادامت الحكومة على إستعداد لأعطائنا شيئا، فلنكن معا، الان هناك حالة من السلم فإن توحدنا يمكن أن تعطينا الحكومة حقنا بالحكم الذاتي، وبالطبع الحكومة سمعت بهذه الجهود وكانوا غير راضين عنها، كما أن إنسحاب طلبتنا من مؤتمر الطلبة العراقيين بسبب مسألة كركوك وعلاقتنا مع مصر وعبدالناصر، كل ذلك أدى الى أن يهيمن صدام حسين على الخط المؤيد لنا داخل حزبه.
بيان الحادي عشر من آذار 1970
*إذا كان ذلك إستعدادا من البعث لإعلان إتفاقية الحادي عشر من آذار، فلماذا وقعها البعثيون مع البارزاني و ليس معكم؟
– لقد أبلغتنا الحكومة بإتفاقها، وناقشوا داخل إجتماعاتهم مع من يوقعونها، وإختاروا البارزاني، فلو وقعوها معنا لكان بإمكاننا القول بأن الملا مصطفى قد إنتهى دوره، لكنهم إختاروه هو وكان ذلك بالنسبة لنا نهايتنا نحن من الناحية السياسية، وبعد توقيع تلك الإتفاقية تغيرت مواقف البعثيين معنا بصورة جذرية وبدءوا بمعاداتنا، وإستهلوا عداوتهم من السليمانية حين أصدروا قرارا بإعدام نوشيروان مصطفى فأضطررنا الى إخفائه، وأعدموا شابا يدعى (جمال أحمد- كوجەر) بتهمة مشاركته مع نوشيروان بإلقاء قنبلة على ثانوية للبنات في السليمانية وكان ذلك محض إفتراء وتهمة كاذبة ومفبركة كان الهدف منها هو التحرش بنا ليس إلا. كان الأستاذ إبراهيم أحمد مريضا جدا في تلك الفترة، أقعده المرض وكان ينحل جسمه يوما بعد آخر ولم نجد له علاجا للمرض رغم بحثنا عن أفضل الدكاترة في العراق، فأضطررنا الى إرساله للندن، كان طريح الفراش بمنزله حين زاره صدام يوما للسؤال عن صحته وكنت هناك، فقال “لماذا لا ترسلوا الأستاذ الى لندن؟ قلنا “لم نفكر بهذا، قال”حسنا، غدا سنؤمن له جواز سفر وما يحتاجه فليذهب الى هناك، وأنت تعال عندي يوم غد”، فلما ذهبت اليه باليوم التالي وجدته قد أكمل ترتيب جواز السفر وصرف مبلغا لمعاونته، ولم أعرف كم كان المبلغ لأنه وضعه بظرف مغلق كتب عليه “مع تحيات نائب رئيس مجلس قيادة الثورة “وهكذا أرسلنا الأستاذ الى لندن لتلقي العلاج.
*كان إعلان بيان 11 آذار انتصارا سياسيا كبيرا للشعب الكردي، فما كان موقفكم منه على رغم أنه أدى الى انتهاء دوركم السياسي؟؟
– قررنا دعم البيان رغم أننا تضررنا منه كحزب، لكن المهم أن يستفيد منه شعبنا، لذلك لم نعارضه وأبدينا هذا الموقف في جريدة النور.
المصالحة والوحدة
و موقف البارزاني بعد 11 آذار
* ماذا كان موقف البارزاني معكم بعد صدور بيان 11 آذار؟
– بعد فترة قصيرة أرسل البارزاني بطلبي، إتصل بي فاخر ميركة سوري وقال “أريد أن أزورك وأحمل اليك توصية من الملا مصطفى”. قلت له “أهلا وسهلا بك، متى ستأتي”؟، قال “غدا”، قلت “إذن ستكون ضيفا علينا بمنزل الأستاذ إبراهيم وسنتناول الغداء معا”، قال “حسنا فليكن”. وحين جاء فاخر كان معه حوالي 10-12 شخصا قدرناهم حق قدرهم و بعد تناول الغداء قال فاخر “هناك موضوعان أود أن أبحثهما معك ولكن منفردين، تنحينا جانبا فقال “أرسلني الملا مصطفى اليك وأوصاني بأن أستدعيك إليه فهو يريد أن يحدثك، وأعطاني وعد الرجال وقال “وإن لم نصل الى نتيجة فوعد مني أن أوصله الى مكانه بأمان”. قلت “يا فاخر، أنا أعتبرك رجلا محترما وسأثق بك، وعلى مسؤوليتك سأفعل ما تريد، لكن أقسم لي بشرفك هل تثق بأن لايسجنني البارزاني “أجاب “أقسم لك بشرفي هو صادق ولن يمسك بسوء”.
* ومتى حدث ذلك؟
– في السابع من آب 1970، وهناك حكاية طريفة سأرويها هنا، قلت لفاخر “سأمتثل لك وسأذهب اليه، ولكن دعني أولا أتشاور مع رفاقي، و وافقوا حين عرضت عليهم الأمر. قال فاخر “أنا سأرافقك بنفسي”. وهكذا رافقني فاخر و أخذت معي 6-7 مسلحين من حمايتي و ذهبنا الى الملا مصطفى وحين مضينا من رواندوز وجدنا عددا من الأشخاص واقفين هناك، حيث كان سعدون غيدان و مرتضى الحديثي يعودون من لقاء الملا مصطفى ويودعهم مسعود و الدكتور محمود عثمان. ذهب فاخر مسرعا الى مسعود وقال له “جئت بمام جلال معي”، وجاء هو و إدريس و رحبا بي بحرارة ولكني لاحظت ترحيبا فاترا من الدكتور محمود، مد يده بفتور فرديت عليه بفتور مماثل. إضطرب سعدون غيدان ومن معه حين لمحوني وسألني “ماذا تفعل هنا”؟، قلت “وماذا أنتم تفعلون هنا”؟، قالوا “نحن جئنا لزيارة البارزاني “و بدوا منزعجين من زيارتي للملا مصطفى وكأن الأمر حلال لهم وحرام علي!
المصالحة بين البارزاني والمكتب السياسي
* هذا يعني بأن زيارتك كانت بداية للمصالحة مع البارزاني؟
– أجل، فحين وصلنا مساء الى مقر البارزاني جاءنا ورحب بي بحرارة وسألني عن أحوالي وكان هناك سامي عبدالرحمن و أنجال البارزاني فجلسنا وقال الملا “يا جلال يا مجنون، كان يفترض أن تكون هناك قبل هذا بكثير، أنظر ماذا فعلت بنفسك وبي”؟، ثم إلتفت الى الجماعة وقال “أنا وجلال أصدقاء قدامى، سنذهب الى الغرفة المجاورة فلدينا كلام خاص بيننا”. ثم سألني “هل صحيح يا جلال أن وزير الداخلية ومن معه حين لمحوك إضطربت أحوالهم “وكان يقصد وزير الداخلية سعدون غيدان، ولكني سألته “أي وزير داخلية تقصد، وزير داخلية العراق، أم وزير داخليتك “، قال “لا. لا، أقصد سعدون غيدان، فمن تقصد بوزير داخليتي”؟، قلت “الدكتور محمود عثمان كان منزعجا أكثر منهم حين رآني”. ويبدو أن مسعود وإدريس قد أبلغاه بذلك، وكان الملا مصطفى غالبا ما يردد بمجالسه “لعن الله جلالا ورفاقه تركوني لأتعامل مع مثل هؤلاء”. وكانوا لايحبون الدكتور محمود، فقلت “حسنا، دعنا من هذا الحديث سنرى لاحقا من كان سبب كل ذلك”، دخلنا الغرفة وبادر بالحديث، وكان من عادة البارزاني أنه يكرر أقواله مرة بعد أخرى، ويفترض بالسامع أن ينتظر حتى ينهي كلامه. ذكرني بالكثير من الكلام الذي قيل حولنا، ثم واصل حديثه، فقاطعته “لا أرى ضرورة لتذكيري بما قلنا وما فعلنا، فالذنب هو ذنب شخص واحد يدعى الملا مصطفى البارزاني”!، وذكرته أيضا ببعض الذكريات منها ما حصل في ناحية سنكسر، وقلت له “أنت كنت السبب وإلا لم يحدث ما حدث، ففي آخر مرة أرسلت اليك فؤاد عارف ولكنك لم تستمع الي”، قال “نعم ما تقوله صحيح، ودعنا من ذلك الآن وقل لي ماذا نفعل” قلت “أنا جئت لإستمع اليك “قال “حسنا جلال، قل أنت رأيك وأنا سأرد عليك”، قلت “نحن الآن حزب صغير وأنت تقود حزبا كبيرا، سنعود الى كردستان ونكون تحت قيادتك ونمارس عملنا الحزبي معك “ثم سألته “والآن قل لي أنت رأيك، هل تعتقد بأن هذه الإتفاقية ستنجز، وبأي إتجاه ستسير قضيتنا القومية بإعتقادك”، قال “هناك عدة نقاط مهمة عليك أن تعرفها، إن البعثيين غير جادين في مواقفهم، وما يفعلونه لايعدو سوى تحايل علينا أستشف منه خطورة مستقبلية، ولم أر نفسي أواجه خطرا مثل هذا أبدا، فالناس يظنون بأننا إنتصرنا، ولكني أرى غير ذلك.ثانيا قل لإبراهيم أحمد وعمر دبابة، أنهم يعتبرون أنفسهم سياسيين ولكنهم لايدركون بما يجري وما يخطط له، أقسم بالله اليوم الذي يعلقون فيه الملا مصطفى على المشنقة، سيكون على يمينه جثة إبراهيم أحمد وعلى يساره جلال المجنون، وبعيدا عنهما ستعلق جثة عمر دبابة، أنتم تحللون الوضع بشكل خاطيء، نحن مصائرنا واحدة فهذه الحكومة تعادي جميع الكرد بلا إستثناء”.
لقد أثر بي ما قاله عثمان ، و وجدته صادقا في تصوراته و يتوافق مع تصوراتي، سألته “طيب، الآن ماذا تريد منا أن نفعل”، قال “أريد أن نكون حزبا واحدا”، قلت “أنا موافق، ولكن لا أعرف ماذا يقول أصحابي”، قال “أنا أعدك، لو نجحت في إقناعهم كي يرجعوا سأفعل مثلما فعلته سابقا معكم حين ساندتكم ضد همزة وأعوانه، و سأسلم الحزب بأيديكم بعد فترة”، قلت له “لا يا عم ليس هكذا، فنحن لا نريد أن نأخذ الحزب منكم، كل ما نريده هو أن يتولى كل واحد مسؤوليته حسب كفاءته”، ثم قلت “حسنا، أنا الآن موافق، ولكن الرأي ليس رأيي وحدي، أنا موافق على التوحيد، ولكني سأذهب الى أصحابي لأقنعهم”، قال “حسنا، ولكن ما يهمني هو أنت بالذات “وذكرني بالرسالة التي بعثها إلي حين إنقلب هو علينا، وقد تكون هذه الرسالة موجودة لدى الأستاذ كمال فؤاد، فكنت حينها في زيوي حين وصلتني تلك الرسالة ويقول فيها “عد إلي، وأترك جماعة المكتب السياسي أنا أحبك وأحترمك، تعال إلي، تعال إلي، تعال إلي، وكرر ذلك ثلاث مرات ثم ذيل رسالته بتلك الآية الكريمة من سورة نوح حين خاطب إبنه قائلا “يابني إركب معنا ولا تكن مع الكافرين”. وذاع صيت تلك الرسالة في ذلك الوقت كثيرا، ثم قال “أتتذكر حين أرسلت لك رسالة أخرى ولم تستمع إلي، الآن أنا أطلب منكم أن تعودوا”، قلت له “حسنا، ولكن أيها المحترم أنا أيضا عندي تجربة مريرة معك، فهل تتذكر حين رجعنا من إيران أعطيتنا وعدا بأن تحل المشاكل في ظرف ستة أشهر، ولكنك أرسلت أشخاصا ليقتلونا وهكذا ذهب علي حمدي الى مثواه، وإتخذت إجراءات قاسية ضدنا”. فأنكر الملا مصطفى ذلك كله وقال “لم يكن القصد هو قتلكم، فكيف أسمح لنفسي أن أمسك أنت بسوء”، وخشيت أن أبوح له بإسم الشخص الذي أبلغنا بما حصل منه، فقلت له “حسنا، دعني أذهب الى رفاقي وأتحدث إليهم وسأبلغك بالموقف”، ثم تحول الى الحديث بكلام طيب بحضو أنجاله وسألني “جلال لقد سمعت بأنك تزوجت”، وكانت هيرو في تلك الفترة خطيبتي ولم نتزوج بعد، فأجبته، نعم أيها المحترم”، فقال “مبارك إن شاء الله، لكن قل لي هل أنت فحل شجاع في بيتك أم جبان”؟، قلت “الناس على دين ملوكهم أيها المحترم، وأشرت بإصبعي نحوه، وقلت “كما يكون البارزاني نكون نحن”. وضحك الجميع ومعهم الملا ثم تركنا وغادر، وقال عبيدالله نجله “جلال لم تمض ليلة واحدة حتى عدت الى دعاباتك”، أجبته “أنا أعرف البارزاني منذ فترة طويلة، وكما قال هو نحن رفيقان قديمان، وأنا أحاول أن أشد الحبل في المكان الذي إنقطع، وخصوصا أنتم ترون أنه أبدى لي لطفا زائدا معي الليلة “، وضحكوا جميعا. قبل خروجه سألني الملا مصطفى “كم يوما ستمكث عندنا”؟، قلت “المدة التي تحددها لي، ولكني أعتقد بأنني كلما أبكرت بالرحيل الى رفاقي كان ذلك أفضل ولكن الأمر لك”، قال “حسنا، إفعل ما بدا لك، وسنلتقي فيما بعد كثيرا”.
أمضيت الليل هناك و تناولنا الطعام على مائدته و حضر أيضا عبيدالله و مسعود و لقمان و إدريس، وكان لفاخر ميركة سوري الدور الإيجابي في تأمين السفر، و أسر لي “لدينا خطة لتغيير اللجنة المركزية الحالية و إزاحة الدكتور محمود عثمان وحبيب محمد كريم، فا بارزانی غاضب منهما جدا، واليوم حل دور الأشخاص الوطنيين الذين يستطيعون التحدث والتفاهم مع العرب”. كان من عادة الملا أن يهيء رجاله حسب متطلبات العصر الذي فيه، فحين يريد أن يقوي صلته بالروس يرسل إليهم دارا توفيق، وإذا أراد التباحث مع الإنكليز أرسل لهم شفيق، واليوم هو يتصالح مع العرب فيحتاج الى رجال من طرازنا معروفين في الأوساط العربية ولنا معهم علاقات جيدة، وفي الحقيقة أود القول انه كان في هذه المجالات ذكيا جدا بقيت هناك يومين ثم عدت الى بغداد.