الفساد، هو ذلك الإرهاب المضمر الذي لا يصدر ضجيجا ولا صوتا ولا انفجارات ولا أشلاء متناثرة في الشارع، انه الإرهاب الذي لا نراه بأعيننا، لكننا نشعر به، ونتلمس وجوده، حين نشاهد الخراب العام في كل مفاصل الحياة العامة. وهذا الإرهاب، لا يمكن مواجهته بالسلاح نفسه الذي يواجه به إرهاب داعش، بل بسلاح آخر مختلف، يتمثل بالقانون! فلا يمكن ان تتحرك الأجهزة المكلفة بمحاربة الفساد، خطوة واحدة من دون وجود نص قانوني يدعمها، ويعطيها الشرعية القانونية الكاملة. وما ان سقط النظام، ولاحت بوادر تشكيل اول حكومة عراقية مؤقتة، حتى ظهرت اعراض الفساد وهي تتسلل الى مفاصل وجسد الحكومة الفتية، عندها سارع المشرع، المتمثل بسلطة الائتلاف المؤقتة، بسن أوامر وقرارات لها قوة القانون، تتضمن استحداث أجهزة وتشكيلات مهمتها الرقابة على المال العام والحفاظ على ممتلكات الدولة من التجاوز، خصوصا من قبل القائمين على تلك الأموال أي الموظفين. فقد صدر الأمر 55 لسنة2003 الذي تم بموجبه استحداث هيئة النزاهة والأمر 57 لسنة2004 الذي تم بموجبه انشاء مكاتب المفتشين العموميين، إضافة الى وجود ديوان الرقابة المالية. وقد تم في العام 2011 اصدار قانون جديد ينظم عمل هيئة النزاهة رقم 30 وكذلك صدور قانون 31 قانون ديوان الرقابة المالية، مع بقاء مكاتب المفتشين العموميين تتولى اعمال الرقابة والتفتيش وتشكيل اللجان التحقيقية، استنادا للأمر 57 لسنة2004. وكان تعديل قانون الهيئة، هو لتعاظم وتنامي قدرات الفاسدين، وعدم قدرة الهيئة مواجهة الفساد اعتمادا على الأمر 55، لذلك تم إقرار القانون 30، وهو قانون استطاعت الهيئة بموجبه ان تمارس واجباتها الرقابية بشكل كبير، رغم وجود العديد من الثغرات في ذلك القانون. وان حجم المبالغ المستردة من قبل الهيئة إضافة الى العقارات التي تمت إعادة ملكيتها الى الدولة واعداد المسؤولين الحكوميين، من وزراء ومدراء عامين ومن ذوي الدرجات الخاصة، تدل وبشكل واضح على حجم الجهود التي بذلتها الهيئة في تأدية واجباتها المتمثلة بمحاربة الفاسدين. لكن ثمة ما يكبل عمل الهيئة، ويمنع كوادرها من تأدية واجباتهم والتوغل الى عمق مناطق الفساد ودوائره الممتدة في كافة مؤسسات الدولة، حيث ان جهود الهيئة إضافة الى بقية الأجهزة، وحتى القضاء، يصل الى منطقة معينة وبعدها يتوقف، حتى لو مر الفاسدون من امامهم، والسبب هو القانون! ذلك ان كل الأجهزة الرقابية تمارس عملها كما قلنا على وفق الصلاحيات المتاحة لها بموجب قانونها، و أي تجاوز لتلك الصلاحيات، يعني مخالفة القانون، وبالتالي يكون عملها عرضة للطعن به امام الجهات القضائية المختصة. وليس القانون وحده هو العائق الأول والأخير امام جهود الأجهزة الرقابية، بل ثمة عوامل أخرى لا تقل أهمية عن القانون، وتتمثل بغياب ثقافة النزاهة والشفافية في دوائر الدولة، وغياب الثقافة القانونية لدى الكثير من الموظفين، خصوصا غير المختصين بالقانون، مما يسهم الى حد كبير في تفشي ظاهرة الفساد، ويسهم باستدراج اعداد جديدة من الموظفين الجدد، وايقاعهم في حبائل الفاسدين. الجانب الآخر الذي يسهم بتفشي ظاهرة الفساد وافلات الفاسدين من العقوبة، هو غياب التنسيق بين العراق وباقي الدول فيما يتعلق باسترداد وتسليم المتهمين والمجرمين، خصوصا في قضايا الفساد المالي والإداري، حيث ساهم هذا الأمر بهروب الكثير من الفاسدين، عدم قدرة الهيئة على استردادهم من الدول التي يقيمون فيها، وهذا ما يتطلب وجود اتفاقيات بين العراق والدول التي تمثل يكثر التواجد فيها من قبل المتهمين بالفساد.
سلام مكي
الفساد.. الإرهاب المضمر
التعليقات مغلقة