التحليل النفسي للمهجر والمنفى . .
أوس حسن
العالم شبكة من العلاقات المعقدة، نسيج متداخل من الأحداث التي ترتبط مع بعضها البعض في نظام غير مدرك للعقل البشري. هذه الذاكرة التي يحملها الإنسان منذ نشأته وحتى فنائه،تصور لنا العالم والزمن من حولنا من خلال حركة الأشياء ونموها وتغيرها،وارتباطها مع هذه الشبكة كتصنيفات ذهنية وحقائق واقعية .
لا يوجد تعريف محدد للزمن الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالألم الإنساني،وبما ابتكرته اللغة من صور ورموز وهواجس مختبئة في العقل الباطن . لوكان الإنسان بلا ذاكرة لاستشعر بالزمن وهو ينساب كماء رقراق بين يديه، ولأصبح جوالاً في الأمكنة والفضاءات الشاسعة في هذا العالم،بلا ذكريات تثقله، ولا نقائض تشطره إلى نصفين.
لكن بلا صراع التناقضات،لن يكون الإنسان إنساناً،ولا العالم الذي نراه سيبقى كما هو يكتنفه السحروالغموض
الذاكرة البشرية أيضاً ترتبط بدلالات رمزية لمفاهيم العقاب والجحيم والخطيئة الأولى،وهي أيضاَ كنز العالم وإرثه؛لانها ستبقى من بعدنا كشيفرات لغوية وترددات في كون لا متناه ،وبالغ التعقيد.
يصاب الإنسان بوجع متكرر وفقدان للأحبة وإنهيار للأحلام،وأحياناً يفقد أبسط مقومات العيش التي تكفل حقه كإنسان في هذه الحياة،فيضطر أن يسافر إلى البقاع المختلفة،وأن يجوب مشارق الأرض ومغاربها في سبيل تحقيق سعادته وإنسانيته،لكنه يصطدم بمحيطه الإجتماعي الجديد،ويصبح أسيراً لصراع داخلي عنيف،يشطره إلى نصفين، فيعيش بين زمنين وذاكرتين
والصدمة هنا نوعان :- إما أن تكون سلبية فيصيبه نكوص وارتداد إلى الماضي نتيجة عدم اندماجه في واقعه الجديد،فيصاب بأمراض نفسية وفي أحيان كثيرة يلجأ إلى الانتحار.
وقد تكون الصدمة ايجابية تحفيزية فيبدأ حياته من جديد بلا ذاكرة وبلا ماض. مندمجاً مع ثقافة وتراث البلد المهاجر إليه ومنخرطا ً انخراطاً تاماً في شؤونه وواقعه العملي.
كتاب التحليل النفسي للمهجر والمنفى هو إضاءة كاملة على شروط الهجرة ونتائجها وعواملها وعلى جذورها التاريخية والميثلوجية،وهو ايضا ً نماذج عينية للمرضى النفسيين من داخل عيادة الطب النفسي، ويتضمن رسائل وشهادات من كبار الكتاب والمفكرين العالميين في المنفى .
الحياة رحيل دائم
شيء وحيد ومؤكد المرء لا يعود أبدا؛ المرء يرحل فقط» «
بهذه العبارة أنهت الكاتبة والمترجمة العراقية الراحلة تحرير السماوي كتابها الأخير «التحليل النفسي للمنفى والمهجر» لـليون غرينبرغ وربيكا غرينبرغ، الصادر عن دار المدى في دمشق سنة 2008 ب 280 صفحة من القطع المتوسط، والذي يضم سبعة وعشرين فصلا تندرج ضمن سياق التحليل والمعالجة النفسية لظاهرة الهجرة وانعكاساتها على الفرد المهاجر طوعا أو قسرا من وطنه إلى المنفى.
يعتبر كتاب التحليل النفسي للمهجر والمنفى من الكتب النادرة والمميزة التي تزخر بها المكتبة العربية، وذلك لشح المصادر المترجمة التي تخص ظاهرة المنفى والاغتراب وأثرها على الإنسان، فقد عالج الكتاب مواضيع هامة وعميقة في التحليل النفسي للمغتربين والمهجرين من خلال تسليط الضوء على عدة أمثلة في عيادة التحليل النفسي، وما يعانيه المغترب من صدمة وأزمة، وانقسام في عالمه الداخلي، وذاته التي يسيطر عليها الخوف من المجهول، والخوف من النبذ والطرد خارج المجتمع، وما ترافقه من كآبة انفعالية حادة .
يبدأ الكتاب بمقدمة مميزة كتبها الشاعر العراقي عواد ناصر جاء فيها:
«إنه كتاب المرايا: مرايا يضعها الباحث أمام وجوهنا القلقة وأرواحنا اللائبة ونحن نبحث عن زاوية أمينة تؤمن الحد الأدنى للبشر الهاربين من ممرات النيران والأقبية المظلمة. إن المكان أي مكان حسب تجربتي المتواضعة ليس معاديا للكائن البشري، سواء كان مقيما، أو وافدا، مهاجرا أو مغتربا أو منفيا، بل أن المنفي أو الوافد أو المهاجر هو الذي يحمل معه عدوانيته المسبقة إزاء المكان الجديد».
يغوص الكتاب عميقا في ظاهرة الهجرة ميثولوجياً ً ودينياً ً،مرجعا جذورها الأولى إلى الأساطير كهجرة آدم وحواء وأسطورة جنة عدن وبناء برج بابل وتراجيديا أوديب الإغريقية، التي أثبتت إلى حد ما أن جزءا من شخصية الإنسان يطمح للمعرفة، بينما أجزاء أخرى تقف على النقيض من ذلك مما يولد لدينا الإمكانية لفهم نوايا البشر في البحث والهجرة وتعدي الحدود المرسومة من أجل اكتساب المعرفة، فتتحول الهجرة إلى هجرة نفي وعقوبة مما يولد لدى الإنسان عوامل الألم والإرباك وعدم التواصل.
يعرض الكتاب أيضا ظاهرة الهجرة ونتائجها والعوامل الداخلية والخارجية التي تؤثر جوهريا في شروطها، وما يصاحبها من إشكالات نفسية تعمق الشعور بالانفصال والازدواج لدى المهاجر، بين محيطه القديم والجديد، فيحيا الإنسان في صراع بين زمنين وشخصيتين، .
من خلال المواقف والانفعالات التي تتشكل بين المهاجر ومحيطه الجديد، وبين المهاجر والناس الذين تركهم في البلد الأصلي، فتستيقظ لدى الفرد مخاوف وهواجس عدة: مخاوف الاضطهاد الناجم عن التغيير والجديد والمجهول، ومخاوف تحمل طابع الكآبة الناجمة عن الحزن والرثاء، وفقدان الأدوات الداخلية الحقيقية للفرد والتي تجعله متماسكا وصلباً ً.
يقع الفرد المهاجر بين صراع نقيضين في عالمه الداخلي،فيكون أسيراً لهذه التجاذبات العنيفة:..
وهي فقدان الأحساس بالهوية،وتعزيز الذات في محيطه الجديد، فإما أن يصبح ضحية هزة عنيفة يبتلع نفسه والآخر،وإما أن تخرج هذه المعاناة على شكل ابداع وخلق جديد متجاوزاً ً كل الكوارث النفسية التي يتسبب بها المنفى للإنسان. .
يعالج الكتاب ظاهرة التبني وتأثيرها على الأطفال الذين تركهم أهلهم وهاجروا، نتيجة الظروف الصعبة من خلال الجلسات في العيادة النفسية، والتي يطلب فيها المحلل النفسي من الأطفال الرسم والتعبير عن مشاعرهم لكشف الدلالات العميقة المختبئة في مكنونات لاوعيهم .
هناك عدة مواضيع محورية أيضا يسلط الكتاب الضوء عليها منها: علاقة المهاجر باللغة، وقابلية تواصله واندماجه مع الآخرين في المحيط الجديد، فاللغة ترتبط مع الزمن،مع الولادة والموت ومن خلالها يمكن اعادة بناء العالم وهدمه،مدعما هذه الفكرة بنظريات ودراسات هامة في علم اللغة كالسيمولوجيا والسيموطيقيا (علم الرموز والدلالات)، إلى آخره، ثم يدرس إمكانية عودة الفرد المهاجر إلى موطنه الأصلي، وما يصاحبها من أثر نفسي عندما يعود؛ ليجد أنه فقد نشوته القديمة في الذكريات والحنين .فالأشخاص الذين تركه؛ لم يعودوا كما هم أو كما زينت له مخيلته في المنفى، ولا المكان توهج بسحره القديم في الذكرى، فيهوي في صراع عنيف مع الذات والزمن. .
وفي باب «المنفيون وشهادتهم» يستعرض الكتاب بعض الرسائل والشهادات الشخصية، التي تعكس اختلاف أشكال الهجرة، منها رسالة الكاتب توماس مان إلى هيرمان هيسه والتي يتحدث فيها عن العودة اللاممكنة؛ ورسالة سيغموند فرويد من لندن إلى تلميذه ماكس آيتنغون قبل وفاته بعام واحد، والمؤرخة بتاريخ السادس من يونيو سنة 1938، والتي يصف فيها مشاعره عندما ترك منزله ومدينته المحببة فينا الشاهدة على مجمل إخفاقاته ونجاحاته، ومسيرته التي تكللت بأعظم وأشهر النظريات في علم النفس.
لم يكن بنية فرويد ترك فينا في يوم من الأيام، لولا ظروف الحرب العالمية الثانية التي أجبرته على الهجرة القسرية إلى لندن، لكنها السجن الجميل الذي ظل يحن إليه فرويد، كما جاء في رسالته إلى ماكس: «السجن الذي سيتركه المرء يوما، يكن له محبة خاصة.».
إن عودة الإنسان لذاته وجوهره، ووعيه الكامل بخياراته وقراراته من خلال قوة أداوته الداخلية وعلاقتها بالأشياء من حوله ترسم له مصيره المرتبط بالشقاء أو البؤس في هذا الوجود .
وإن محصلة الأهداف النهائية للإنسان هي السعادة، التي ترتبط بمدى وعينا وإدراكنا العميق للحياة، فرغم قسوة المنافي وألم الاغتراب، يجب أن نتعلم كيف ندرب أنفسنا على الفقدان وكيف نهضم الحزن والرثاء، لنؤنسن معاناتنا وشقاءنا في هذا العالم، فالحياة عبارة عن رحلة طويلة وشاقة داخل تعرجات النفس البشرية، كي تتوهج بالمحبة وفرح الكينونة.
دائما هناك و في مكان ما من هذا العالم الفسيح سعادة لا مرئية ،وجمال غامض يسكن الأشياء وبساطتها الساحرة.
كن حاضرا ً وأيقظها من الأعماق …