علاء الدين العالم
في حياتها القصيرة المليئة بالاضطرابات النفسية والتحولات، والزاخرة بالشعر واليوميات، استحالت الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث إلى أيقونة التحرر الفردي، وغدت الأنثى الرمز في الاستدلال على أثر الهيمنة الذكورية في المجتمعات الحديثة، لا سيما علاقتها مع زوجها الشاعر الإنكليزي تيد هيوز، تلك العلاقة المضطربة التي انتهت بها أخيرًا إلى الانتحار.
لقراءة أثر بلاث منذ موتها مدخلان اثنان، الأول: تفسير مباشر لنصوص بلاث يحد سيرتها بعلاقتها بزوجها فقط، وانطلاقا من هذه العلاقة يقرأ أصحاب هذا الاتجاه كل إرث بلاث من هذا المنظور، بينما ينفتح الاتجاه الثاني لقراءة بلاث على الانطلاق من شِعرها نفسه، شِعرها الذي دأبت على كتابته منذ طفولتها المبكرة.
وهذا الخيار الأخير هو ما اعتمده المخرج البلجيكي Fabrice Murgia في عرضه المقدم حديثا في المسرح الوطني البلجيكي SYLVIA (سيلفيا).
يدخل الجمهور بالتوازي مع عرض مشاهد من ستينيات القرن الماضي على شاشة في منتصف الخشبة، تظهر فيها نساء يقمن بأعمال يومية كالتسوق. تعكس الصورة المعروضة رومانسية زمن الستينيات حيث الحياة الرغيدة بُعيد الحرب، هذه الرومانسية التي يكشف زيفها العرض في سرده لحياة بلاث. على الخشبة يجري تحضير الفضاءات المختلفة: فضاء للموسيقيين يدنوه فضاء للمونتاج، وعلى اليسار فضاء لمغنية وبيانو يدنوه فضاء لكواليس. في المنتصف ينتصب فضاء مطبخ سيلفيا التي تظهر وهي تحضّر طعامًا لابنيها (فريدا ونيكولاس) وتحضّر أيضًا لانتحارها بالغاز في الوقت ذاته لتتوقف من بعدها عن الحياة/ الكتابة.
ينطلق العرض من المشهد الأخير في حياة سيلفيا بلاث ليقدم ومضات من حياتها، ومشاهد مفصلية من مسار الشاعرة الشابة، مقدمًا الانتحار ليس كناتج صدمة مباشرة بل كنتيجة لهذه الروح العاصفة التي امتلكتها بلاث والتي دفعتها إلى اختبار الموت كفن «فن لكل شيء، وهو فن أتقنه بشكل استثنائي».
لم تلعب دور بلاث في العرض ممثلة واحدة، فالشخصيات التي يراها الجمهور في البداية تشاركه مشاهدة المادة الفيلمية على الشاشة ستلعب أغلبها دور بلاث، وستتبادل الممثلات دور الشاعرة في سبيل تقديم رؤية حول حياة بلاث في كل مرحلة من مراحل حياتها. فعلى سبيل المثال، تمكنت الممثلة الأولى التي لعبت دور بلاث في انتحارها، من عكس الحالة النفسية المزرية لبلاث في وقتها، فبدت ملامحها القاسية والمتعبة وبدا عليها أنها أكبر من عمرها الحقيقي وقت الوفاة (31 سنة) مدللة بذلك على ضخامة الهزات النفسية التي تعرضت لها بلاث في حياتها. بينما نجد أن المؤدية التي لعبت دور بلاث في بداية دراستها ومراهقتها كانت تشع طاقة وعنفوانًا، كذلك الحال مع بلاث الزوجة المحبة لزوجها، والتي تطير كالفراشة حينما ينجح تيد في نشر مجموعة نصوص.
لحظة الزواج لحظة تراجيدية
أما لحظة الزواج فجعلها العرض لحظة تراجيدية في حياة بلاث، إذ كانت فعلا هي اللحظة التي غيرت حياة هذه الشاعرة للأبد، وذلك يقدمه العرض بصورة جلية عبر المؤدية التي لعبت دور بلاث في عرسها، وعبر الفضاء العام للمشهد. أما بلاث الشاعرة فهي في فضاء آخر، تقف وحيدة خلف ميكرفون وتنفجر طاقة وشعرا وحرية، ولربما تلك هي بلاث الحقيقية لولا هيمنة الذكر على حياتها وضغط مؤسسة العائلة عليها، فهي كما عبرت بقصيدتها «استعارات»: «أنا أحجية بتسعة مقاطع لفظية/ أنا فيل/ أنا منزل ثقيل/ بطيخة تمشي على ساقي نبتة رفيعتين».
أين الزوج من كل ذلك؟ من سيلعب دوره في العرض؟ ذلك كان سؤال الممثلات في فضاء الكواليس، ليتوجهن بعد السؤال إلى الجمهور، وينتقين واحدًا من المتلقين، يصعدن به على الخشبة ويلبسنه قناعا بلاستيكيًا، طالبات منه أن يؤدي دور تيد هيوز على امتداد العرض. إن تيه المتلقي المختار، وتتبعه لحركات الممثلين، جعلا من شخصية تيد ألعوبة مضحكة، ورجلًا أبله، مقدما العرض بذلك نقدا للهيمنة الذكورية المغلفة بأغلفة الأسرة، الحب… إلخ. ولعل مشهد الحوار الصحافي مع تيد هو المشهد الأبرز في هذا السياق، حيث يبدو تيد مغفلًا يتحدث عن نفسه دون ترابط، في الوقت نفسه تحاول بلاث أن تقدمه بطريقة أفضل وأكثر ألقًا وهو لا ينفك عن البوح بالحماقات مقدما صورة كاريكاتورية عن الذكر المهيمِن.
ورشة عمل ضخمة
تستحيل الخشبة في عرض SYLVIA إلى ورشة عمل ضخمة، فالديكورات تتحرك باستمرار للانتقال من فضاء إلى آخر في حياة بلاث، ومع هذا التحريك تتحرك الكاميرات التي تصور المشاهد بنقل مباشر على الشاشة التي في المنتصف. وإذا كان من مخاطر الشاشات في العروض المسرحية أنها تستحيل أحيانًا إلى استسهال يخلو من المعنى، إلا أن الشاشة في العرض لم تكن كذلك، بل إن حضورها كان أساسيا لإتمام المعنى، فالكاميرات كانت تقدم كلوزات من حياة سيلفيا بلاث، لقطة مقربة تتجاوز اللقطة العامة المأخوذة عن بلاث، ناهيك عن العناية بإخراج الصور البصرية وضبط الكادر والتقاط التفاصيل المبتغاة. وربما يتم معنى الشاشة في نهاية العرض، حينما تنزل الشاشة وتمزقها الممثلات اللاتي لعبن دور بلاث، في دلالة واضحة على تدمير أي صورة استهلاكية أو نمطية عن بلاث، حتى لو كانت صورة العرض ذاته، فهذه الشاعرة تتجاوز بنصها وحياتها المشتعلة أي صورة. في السياق نفسه، لعبت الموسيقى الحية دورًا أساسيًا في ضخ الشاعرية في العرض، شاعرية بلاث على وجه التحديد.
«بينما تقف منتصرًا بمعطفك وياقتك، أمكث رابطة الجأش، متدثرة بردائي الإغريقي/ عاقدة شعري كامرأة إغريقية، عالقة في نظرتك السوداء/ وقد استحالت إلى مسرحية تراجيدية: بعد هذا البلاء العظيم/ أي طقوس من الكلمات/ يمكن أن ترمم الخراب؟»؛ لا يُقرأ شعر بلاث السالف على أنه خطاب شخصي لزوجها تيد، بقدر ما هو صوت أنثوي في وجه كل النظام الأبوي الذكوري المهيمن على المجتمعات البشرية، ولعل ذلك جُلّ ما أراد أن يقوله عرض SYLVIA في تقديمه مانفيستو مسرحيًا باسم سيلفيا بلاث.
*ضفة ثانية