كه يلان مُحَمَد
إستفاد فن السينما من الرواية وأضاف نقل النصوص الأدبية إلى الشاشة أبعاداً جديدة إلى تركيبة الفن البصري بحيثُ لم تَعد السينما وسيلة للتسلية بل أصحبت منصةً مفتوحة على رهانات فلسفية وإجتماعية وسياسية أكثر من ذلك تتفاعلُ الأجناس الأدبية منها الرواية مع التقنيات المُستخدمة في السينما من خلال توظيف اللغة المشحونة بالإيحائية والإهتمام بوصف الأشياء على المستوى الخارجي والإبانة عن المشاعر الدفينة للشخصيات عبر الإيماءة إلى المُناخ والمكونات الطبيعية إضافة إلى إيثار أسلوب الحوار في مُعظم مقاطع الأعمال الروائية التي تُحاكي تشكيلة الأفلام السينمائية وهذا ما يتبناهُ الكاتب الإيطالي تشيزره بافيزه في روايته المعنونة ب(الصيف الجميل) الصادرة من منشورات المُتوسط.عُرِف بافيزى بوصفه من أشهر شعراء إيطاليا المُعاصرين لذا من المفترض أن تلقي حساسيته الشعرية بظلالها على نتاجاته الروائية غير أنَّ مُتابعة خطوط عمله (الصيف الجميل) تكشفُ عن تأثره بالسينما على مستوى اللغة وتكوين الشخصيات.يري إيتالو كالفينو أنَّ روايات مواطنه تتميزُ بأسلوب خاص على مستوى اللغة وإستخلاص التوتر الشعري ولايوجدُ منَ يكون بمنزلته على هذا الصعيد. يُفضل تشيرازه بافيزي في رواية (الصيف الجميل) الوضوح والبساطة في التعبير مع تنوع في إستخدام الضمائر والتناوب بين السرد بنوعيه الذاتي والموضوعي أمرُ يصعدُ من منسوب التشويق في جسد النص خصوصاً إذا أضفتَ الإختلاف بين طبائع الشخصيات إلى ماسبق ذكره.والتوتر الذي يعتملُ في دواخلِ شخصية جينا التي تعيشُ مع أخيها العامل سيفرينو يشدُ القاريءَ أكثر إلى فضاء الرواية.
موسم المرح
مع أنَّ رواية (الصيف الجميل) تتكيءُ على عنصر الشخصية لكن معرفة الشخصيات لاتتمُ مُباشرةً بل يتطلبُ الأمرُ مضي السرد إلى أنْ تتضحُ تركيبة الشخصيات الفاعلة وإن بدت الرواية للوهلة الأولى صاخبةً بأصوات الشخصيات المُتعددة لكن ينسحبُ هؤلاءُ إلا بضعةً منهم.وتتضحُ من مُستهل الرواية تعويل الكاتبِ على تقنية السينما عندما يستعيدُ الراوي من الخارج ماكان يسودُ من أجواءٍ مرحة في أيام الصيف المُعبقة بطابع أُنثوي حيث تتمنى البنات بعد قضاء الليالي القصيرة أنَّ يقعَ ما يثير فضولهنَّ كأنَّ يولدَ طفل على هذا المنوال يتسمرُ السردُ مع الإيهام بآنيته وعدم إنفصال زمن الحكاية عن زمن القص وهذا ما يُطعمُ الأسلوب بالبساطة حيثُ يتكفلُ الراوي العليم بتقديم حياة شخصيتين أساسيتين في الرواية وهما جينا وأميليا فالأولى إبنة ست عشرة سنةً تعيشُ مع أخيها وهي بإمكانها التصرف كأمرأةً مُستقلةٍ مع أنَّ الراوي لايفصلُ في وصف ملامحها الخارجية لكن يُفهمُ في سياق السرد أنَّها شقراء.إذ ترغب للقيامِ بالمُغامرة مثل صديقاتها ولاتتمكنُ من تجاوز حالة التردد وهذا مايثير ضحكة روزا التي تخبر جينا بما أسفر عن علاقتها الحميمية مع صديقها أما إيملياتختلف في شخصيتها المنفتحة وإختلاطها بالوسط الفني كما أن عملها كموديل يتطلبُ الجرأة.فإنَّ الساردَ يهمه تلميح إلى خلفية الشخصيات الإجتماعية والمهنية إذ تعمل جينيا في محل الخياطة غير أنَّ مُصاحبتها لإيمليا حدت بها للتطلع في تجريب مهنة الموديل إذ ترتادُ برفقة صديقتها مُحترف الرسام باربيتا الذي يعبرُ عن إعجابه بالوافدة الجديدة ويقومُ برسم تخطيط لملامحها لكن مارأتهُ جينيا على الورقة بدا لها وجها غريباً فوق هذا فهى لم تتعرف على التخطيطات التي رسمها الفنانُ لصديقتها أيضاً.إذاً ماقدمهُ باربيتا في تخطيطاته ليس إلا وجوهاً غرائبية والحالُ هذه فإنَّ قوس السرد ينفتحُ على حياةِ كل من رودريغوس وغويدو وتقعُ جينيا في غرام الأخير في حين أنَّ إميليا أقربُ من رودريغوس الذي تشي سحنته بأنه ليس إيطالياً ويقضي أوقاتاً في ستديو صديقه الجندي غويدو وهناك تتعرفُ جينيا على الشاب الأشقر الذي يرتدي زياً عسكرياً وبذلك يتكثفُ السردُ في هذه البؤرة المكانية تماماً تتحركُ آلة السرد مثل الكاميرا تبدأُ من لقطة تمسحُ الفضاء الواسع إلى أن تتوقف عند زاوية مُعينة.
عقدة المُراهقة
يهتمُ كثير من الروائيين بإستبطان دواخل الشخصيات مُكلفين الراوي بهذه المهمة وذلك ماتراه في (الصيف الجميل) عندما يتمُ التركيز على البُعد النفسي لدى شخصية جينيا التي تريدُ الخروج من قيد المراهقة وإكتساب مواصفات جسدية ناضجة.وتجدُ نموذجها في إيمليا وهي تظهر أمام الفنانين في وضعيات مثيرة الأمرُ الذي يغذي رغبة جينيا لقيام بلعب دور الموديل في ستوديو غويدو وينشأُ على إيقاع زياراتها المتكررة لهذا المكان الشعورُ بالحب.ومن ثُم تبدأ الغيرة من إيميليا وتستوجبها عن شكل العلاقة التي جمعتها بغويدو في السابق.كما أن غياب غويدو مؤقتاً عن مسرح الرواية أبان عما يكنه رودريغوس من الإعجاب لجينيا وعندما إنفرد بالأخيرة حاول التواصل معها جسدياً.ومايُضيفُ مزيداً من التوتر إلى بنية الرواية هو غرابة شخصية إيمليا وتصرفاتها التي تنمُ عن ميول شاذة ولايتعاطف معها أحد عند إصابتها بالمرض الجلدي سوى جينيا بل يري رودريغوس أنها تُمثل دور المريضة لتمارس العلاقة الحميمية مع الطبيب أمر يكشف عن تقلب المشاعر لدى شخصيات الرواية وتتأكد تلك الحالةُ في ردِ فعل جينيا على رغبة غويدو لتعميق العلاقة بينهما على المستوى الحميمي حيثُ لاتقتنع بداية بهذا الأمر إلى أن تعودَ لتعلب دور العشيقة بل لاتُمانع تلبية نزوات الفنان للوقوف عاريا ليرسم تضاريس جسدها.لكن هذا التحول في شخصية جينيا لايحجب توترها وإنفعالاتها الدخلية التي وعندما تحتدُ أكثر لاتتمالكُ من البُكاء.يُذكرُ أنَّ زمن الرواية يمتدُ لأشهر ولاتتوقف آلة السرد قبل قدوم صيف آخر كما أنَّ الكاتبُ يُفَضلُ رصد حركة الشخصيات دون توظيف تقنية الإسترجاع الداخلى إلا قليلا وهذا يوفرُ عن العمل الإنتفاخ بما لايخدمُ رشاقة السرد والإنتقال بين أقسام الرواية المُرقمة.في الصفحات الأخيرة من الرواية يسبرُ الرواي أغوار جينيا التي تشعرُ بالوحدة وتتأمل جسدها في المرآة متخيلة مايحدث لو دخلَ غوديو لكن شريط الخيال ينقطع حين تتذكر بأنَّ لايُفكرُ بها.على رغم ذلك فإنَّ البطلة تترقبُ فصل الصيف الذي هو صنو الأحلام والمرح كما أنَّ إيمليا يعودُ إليها الأمل بالشفاء مع حلول الربيع.يشارُ أنَّ المتلقي يستعيدُ مُناخ وأسلوب رواية (العاشرة والنصف ليلاً في الصيف) وهو يتتبعُ وحدات عمل (تشيرزة بافيزه) مع فارق أنَّ رواية مارغريت دوراس أكثر كثافة على المستوى الزمني.