رحلة ستين عاماً من التكية الى قصر السلام
( لقاء العمر)
تضع “الصباح الجديد” بين يدي القارئ الكريم ما يمكن أن يوصف بمذكرات للرئيس الراحل جلال طالباني، وتتميز المذكرات وهي عبارة عن بوحٍ متصل للأستاذ صلاح رشيد، بأنها صورة مفصلة بل تشريح سياسي لمرحلة حاسمة في تاريخ العراق تشمل السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وحتى يومنا هذا.
وعلى عكس ما عُرِف عن مام جلال من دبلوماسية ونزوع نحو التسويات التي عرف بها خلال ثماني سنوات من جلوسه على مقعد رئاسة الجمهورية العراقية، فأنه على العكس من كل ذلك يدلي بآراء في غالبيتها إشكالية، ونحن لا نتحدث عن المعلومات وسرد المعطيات التاريخية لعلاقته بصدام حسين وفرقه المختلفة للتفاوض مع الاكراد، بل أنه يتجاوز الى العلاقة مع إيران وسوريا والولايات المتحدة وبقية الأطراف التي كان لها تماس مع الملف العراقي في مراحله المختلفة، لكننا نتحدث عن الآراء المتعلقة بالشخصيات التي رافقته خلال مرحلة بناء الاتحاد الوطني الكردستاني وتشكيله للبؤرة السياسية في اعقاب عام (1975م) وهزيمة الثورة الكردية أثر اتفاق الجزائر بين الشاه وصدام.
وتشكل المذكرات إنارة معمقة للطريقة التي اتبعها مام جلال في معالجته للتحديات والحلول التي خرج بها لتجاوزها، ولكنها لا تخلو أيضًا من اضاءة البعد الشخصي لمام جلال مما يساعد في نهاية المطاف الباحثين السياسيين والمواطنين على حد سواء العرب والاكراد على الاطلاع على أسرار لم يجرِ التطرق اليها في الماضي.
وغني عن القول أننا في “الصباح الجديد” نعدّ هذه المذكرات شهادة تاريخية من شأنها أن تستكمل المشهد السياسي العراقي الراهن، وهي تنطوي على مفاجآت وطرائف لا يمكن لأحد من خارج الدائرة الضيقة لمام جلال أن يطلع عليها.
“الصباح الجديد” سوف تنشر القسط الأساسي من هذه المذكرات، وهي لا تتحمل مسؤولية أي آراء قد تنطوي على بعض القسوة هنا وهناك، وستحاول تخفيفها بقدر الإمكان، ونأمل أن يتجاوب الساسة الكرام في كردستان وفي الفضاء العراقي من خلال هذه العملية ويسهموا بدورهم في إضاءة بقية المشهد.
الحلقة 1
إعداد: صلاح رشيد
ترجمة: شيرزاد شيخاني
هذا الكتاب الذي نضعه بين أيدي القراء الكرام، اعده الكاتب صلاح رشيد باللغة الكردية وترجمه الى العربية الصحفي شيرزاد شيخاني، ويوثق كتاب مذكرات الرمز والقائد الكبير الرئيس مام جلال طالباني، وفقا لمترجمه شيرزاد شيخاني، لمرحلة عصيبة من مراحل النضال القومي نحن أحوج ما نكون الى التعرف عليها وسبر أغوارها والتحقيق فيها ليكون الجيل الجديد واللاحق على دراية بمن صنع تاريخهم ومن كافح لأجلهم ومن عانى في جبال كردستان ووديانها ليخوض النضال المسلح ضد الأنظمة الدكتاتورية، جنبا الى جنب مع النضال الدبلوماسي في الخارج لكسب الأصدقاء والمناصرين لثورة الشعب الكردي.
هذا النضال الذي قاد صاحبه من تكية صغيرة في بلدة مغمورة الى إرتقاء أعلى المناصب القيادية في العراق الجديد ليكون أول رئيس جمهورية كردي في تاريخ شعبه يصل الى ذلك المنصب الرفيع.
مام جلال الذي أنار بتدوين مذكراته هذه الطريق أمام جيل من الباحثين والمهتمين بتاريخ النضال التحرري الكردي من خلال ما أورده في تلك المذكرات من حقائق ومكاشفة صريحة في روايته لكل الأحداث التي رافقت مسيرة ذلك النضال المرير، وقد تكون تلك المكاشفة هي السبب فيما أثاره هذا الكتاب من جدل ومن ردود فعل عنيفة لدى البعض من خلال الكشف عن حقيقة الوقائع والأحداث التي شهدتها حركة التحرر الكردية في سنوات حاسمة.
وها هو مام جلال يكشف في كتاب (لقاء العمر) عن الحقيقة بكل صراحة ووضوح، واضعا النقاط على الحروف في كل ماحدث، ولعله بنشر هذه المذكرات قد كشف المستور الذي نحتاج الى رفع الغطاء عنه لنتعرف على دور اللاعبين الأساسيين كل منهم سواء كان صالحا أو طالحا، لأن مام جلال لم يكتف بتوثيق التاريخ النضالي للشعب الكردي فحسب، بل تطرق الى الكثير من الوقائع والأحداث التاريخية التي وقعت في العراق خلال مسيرته النضالية..
هذا الكتاب لا غنى عنه للباحث الأكاديمي أو المثقف الكردي بل حتى لعامة الشعب لأنه سيثري المكتبتين العربية والكردية بوثيقة تاريخية كبرى ستبقى الى زمن بعيد تثير الجدل.
ولذا فالكتاب ليس مجرد لقاء صحفي مطول أجراه مع الرئيس مام جلال الكاتب صلاح رشيد وصاغها على شكل حوار مطول ليروي فيه ذكرياته عن الأحداث التي عايشها، بل هو في الحقيقة مذكراته أملاها عليه، لذا فأننا ينبغي ان نعد هذا الكتاب مذكرات الرئيس مام جلال وليس مجرد لقاء صحفي.
كيف تم هذا اللقاء؟
في أيار/ مايو من عام 1990 والذي صادف حلول شهر رمضان الفضيل، حل مام جلال ضيفا علينا في برلين. وخلال الأيام التي أمضاها هناك كنا معا في شقة أحد الرفاق الذي كان غائبا في سفر حينذاك. وكان مام جلال صائما ما أتاح لي فسحة كبيرة لتجاذب الحديث معه، وتخصيص الجزء المتبقي من يومنا للتسوق في مركز المدينة.. وفي أحد الأيام قررنا أن نعد وجبة مميزة للإفطار، فذهبنا سوية الى مركز تسوق شهير في برلين يدعى “ميترو”.وهو بمنزلة مخزن كبير خاص بأصحاب المطاعم والفنادق والمرافق العامة يشترون فيه حاجاتهم اليومية بكارتات خاصة، وفيها أنواع من الأطعمة التي لاوجود لها في أسواق كردستان..هناك تفحص مام جلال النوعيات المعروضة وإختار مجموعة من الأطعمة اللذيذة منها لحم طير يشبه “القبج”، لم أكن قد تذوقت هذا اللحم من قبل، ولكن تبين بأن مام جلال جربه وتناول من ذلك اللحم حين كان في لبنان، ولذلك أعد طبخه بنفسه، وحين ذقته وجدته لذيذا فعلا..
في تلك اللحظة خطر لي بأن أستغل فرصة وجوده بصحبتنا لإجراء حوار صحفي معه..في البداية وددت أن أكتب الأسئلة وأقدمها له ليجيب عنها براحته، ولكني شعرت بأن الأسئلة المكتوبة لاتروي ظمأي، لذلك فكرت أن أسجل الحوار بمسجل صغير كنت أملكه، وهكذا بدأ الحوار.
في الحقيقة لم أرد أن يكون الحوار طويلا، وأعتقد بأن مام جلال نفسه لم يكن مهيئا للقاء مطول، ولكن حينما شرعنا بالعمل كانت الأسئلة تثير أخرى، وكانت الأجوبة تعيدنا الى مراحل لم يكن يخطر ببالنا.. وبما أنني لم أعد الأسئلة مسبقا، ومام جلال بدوره لم يكن بحوزته مصادر يرجع إليها لتوثيق الردود، كنا نضطر بين حين وحين آخر الى التوقف للمراجعة واستعادة الذكريات..
وهكذا شكل لقاؤنا في شقة برلين بداية لهذا الحوار المطول، ولكي أستثمر تلك الفرصة الثمينة بشكل أفضل، كنت حين أذهب للسوق لشراء حاجاتنا اليومية، أترك له بضعة أسئلة كي يرد عليها ويسجلها بغيابي، وكنت قد حضرت عدة شرائط كاسيت فارغة لكي يسجل عليها، ولكن الأمر لم يخل من مشكلات أثناء التسجيل، فقد كان المسجل عتيقا ومهترئا فحين ينتهي وجه الشريط لايعطي إشارة بإنتهائه، ولذلك كنا نضطر أحيانا أن نعيد تسجيل الردود مرة أخرى.
خلال فترة تواجد مام جلال معنا أكملنا جزءا كبيرا من الحوار، وحين غادر برلين عائدا الى كردستان زاحمته أحداث مهمة وقعت في العراق فلم يتسن لنا استكمال الباقي.. ولما عدت أنا الى كردستان بشكل نهائي عام 2000 إلتقيته مرارا وإستكملنا الحديث.خاصة أن الفرصة سنحت لي مرة أخرى حين تسلمت منصب مساعد الأمين العام للإتحاد الوطني لشؤون العلاقات الخارجية الى حين سقوط نظام البعث وترشح مام جلال لعضوية مجلس الحكم في بغداد، في ذلك الوقت كنا نلتقي بشكل متقطع، وكنت أستغل اللقاءات السريعة لطرح بضعة أسئلة وتسجيل ردوده عليها، وأثناء الفراغات كنت أستثمر الفرصة لكي أراجع الأسئلة والردود السابقة وأستخلص منها أسئلة جديدة.
وكما أشرت آنفا لم تكن بحوزة مام جلال أي وثيقة أو مصدر لتعزيز ردوده، مع ذلك لم أشعر بأي تردد منه حيال الإجابة عن أسئلتي، والأهم أنه لم يرفض الإجابة عن أي سؤال أو ينزعج من طرحه، وكان مطمئنا وعلى ثقة كبيرة بإجاباته، فلم يطلب يوما أن يراجع ما سجلناه أو تعديل إجاباته.
للأسف الشديد حين أعددت النسخة النهائية لهذا الحوار للطبع، كان المرض قد داهم مام جلال، فلم ير مسودة اللقاء، ويكفي أنه أشار مرارا في مناسبات سابقة بأنه دون مذكراته، مع تأكيده الدائم بأنها لا تصلح للنشر في حياته، لأنها ستتطرق الى بعض الرفاق والأقرباء والشخصيات السياسية ولا يريد أن يزعلهم!وفعلا يبدو أن هذا اللقاء المسجل، قد يثير تساؤلات لدى بعض الشخصيات التي ذكرهم مام جلال، فقد تكون لهم آراء مخالفة لما طرحه مام جلال، وهذا أمر طبيعي، لأن مام جلال قيم الأحداث التي عايشها من خلال رؤيته الخاصة، وقد تكون لغيره آراء مغايرة، كما كان له دور كبير ومؤثر في بعض تلك الأحداث، وبذلك لا نستطيع أن نقول بأن ما سرده مام جلال لم يكن منحازا، فهو إستعرض الأحداث التاريخية في سياق الأسئلة المطروحة عليه.
إستغرق إعداد هذا اللقاء أكثر من 15 سنة، رافقته أحداث مهمة في كردستان والعراق، وكذلك في المنطقة والعالم، وداخل صفوف الإتحاد الوطني أيضا، لذلك من الطبيعي أن ما يسرده مام جلال يعبر عن رؤيته لتلك الأحداث ساعة وقوعها، فهو يسردها كما عايشها بغض النظر عن تداعياتها اللاحقة، وبناء عليه حين نحلل تلك المذكرات أو نقيمها، يجب أن نأخذ بنظر الإعتبار ساعة وقوع تلك الأحداث وليس نتائجها وما خلفته. هناك العديد من الرفاق والأصدقاء الذين رأوا بأن الوقت لم يكن مناسبا لنشر هذه المذكرات، كما نصحني بعضهم بأن كردستان تمر اليوم بظروف حساسة وأن نشر اللقاء قد يسيء الى بعض شخصيات أو أطراف سياسية معينة، والسؤال الذي يجول بخاطري هو “إذن متى يكون الظرف مساعدا لنشرها”؟ فمنذ أن وعينا و نحن نسمع دوما بأن ظروف كردستان حساسة، ويتذرع الكثيرون بهذه الظروف لكي يخفوا الحقيقة عن الآخرين ويطمسوا الكثير من الأحداث التاريخية، والحقيقة ورغم كل تلك النصائح أرى بأن الأمانة التاريخية والأخلاقية تفرضان علي نشر اللقاء، لانه يلقي الضوء على جزء من التاريخ النضالي لشعب كردستان، ويسهم في فتح نافذة جديدة لتقييم ما وقع من أحداث سابقة..إنني أنشر هذا اللقاء في وقت يعاني فيه مام جلال من المرض، وللأسف الشديد لم تسنح له الفرصة لكي يرى اللقاء و يضيف عليه أو يشطب منه، كما لم تسنح أمامي فرصة لإستئذانه بالنشر، ولكني أعتقد بأن الجيل الحالي يحتاج فعلا الى التعرف على ماحدث ويعرف ما لدى مام جلال من خزين المعلومات لتلك الأحداث وتقييمه لها وموقفه منها، وعلى هذا الأساس وجدت أن الضرورة تتطلب نشر هذا اللقاء.وفي المحصلة فإن اللقاء لاينشر بهدف معاداة طرف معين، أو تكريسه لخدمة أهداف ومصالح فئة معينة، إنما هو سرد لأحداث عايشها مام جلال، وقد يكون هناك الكثير من الأسئلة الضرورية التي لم تطرح في اللقاء، خاصة ما يتعلق بالجوانب الشخصية والإجتماعية والسياسية، وقد نكون قد أخفقنا في إعطاء المعلومات المؤكدة حول بعض الصور الملحقة بهذا الكتاب، وهذا نقد قد يوجه إلينا ونرحب به، ولكني أعتقد بأن أي منجز بهذا الحجم قد لايخلو من بعض الهنات.
هناك حدثان مهمان لم نتطرق إليهما ويشكلان فراغا كبيرا في هذا اللقاء، وهما كارثة الأنفال وقصف حلبجة ومناطق أخرى من كردستان بالأسلحة الكيمياوية، ولكن ما يشفع لنا لملء هذا الفراغ هو أن مام جلال قد تحدث مرارا في لقاءات متعددة عن هذا الجانب وأشبعهما عرضا وتحليلا مما قد يبرئنا ويغطي هذا النقص بالكتاب.
سمعت وجهات نظر من بعض الأخوة فيما يتعلق بآراء مام جلال، حيث يرى بعضهم أنه ليس بالضرورة أن تكون كل أجوبة مام جلال قابلة للنشر كما هي، وخاصة ما يتعلق بالمشكلات والصراعات السابقة بين الإتحاد الوطني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وخصوصا أن الإتحاد الوطني يعاني اليوم من عدة مشكلات داخلية. فيما يرى آخرون بأن سرد الأحداث التاريخية يجب أن لا تنفصل حلقاتها عن بعض، وأن الأمانة تتطلب أن تنشر الآراء كما هي، وعلى ضوء هذه الآراء الأخيرة وإحتراما لوجهات نظر مام جلال في كل ماطرحه، لم أعط نفسي الحق بحجب ما لا أراه مناسبا للنشر، فهناك أسئلة تتعلق بفترات مهمة وعصيبة كانت أحداثها تؤثر في مام جلال، ولذلك لاحظت بأنه لم يرد على تلك الأسئلة بطريقة دبلوماسية، بل كانت ردوده ناجمة عما شعر به في تلك الفترة، وعليه فقد وجدت الضرورة فقط في شطب أسماء بعض الشخصيات الواردة في اللقاء، ولكني إلتزمت بـأصل الحديث وبأمانة، ومازالت النسخة الأصلية من اللقاء محفوظة لدي فإذا أتتني فرصة مناسبة قد أضطر الى نشره بطبعة جديدة.
لقد طرحت آراء ووجهات نظر متعددة من خلال اللقاءات والمقالات وكتب السيرة حول أحداث كردستان، وكذلك حول الصراعات الداخلية في الإتحاد الوطني، ولكن الجديد في الأمر هو أن مام جلال روى تلك الأحداث كما هي ولم يسبق أن تحدث بها لأحد في وقت سابق.
كما أنني حاولت أن أكتب الأجوبة كما هي، بمعنى الإلتزام التام باللهجة والتعابير التي تحدث بها مام جلال، وإذا صادف القارئ الكريم أخطاء معينة في التواريخ أو الأسماء فإن مرد ذلك هو المسجل القديم الذي سجلت عليه اللقاء، وبما أن مام جلال أورد بعض الأسماء خلال إجاباته، فقد أضطررنا الى تعريفهم بهوامش الكتاب وفق مصادر موثوقة.
إن عمر هذا المنجز يقرب من ربع قرن، ويشرفني بهذه المناسبة أن أشكر زوجتي التي ساعدتني كثيرا في تفريغ بعض الشرائط وتدوينها على الكومبيوتر، ولكن للأسف بسبب قدم الجهاز أيضا محيت مسودات عديدة ما أضطرنا الى إعادة التفريغ مجددا، وللتدقيق فقد راجعت التسجيلات لعدة مرات لكي أتحقق منها، كما أنني أشكر الأخوة ستران عبدالله وجولي أسعد وكامران سبحان وهفال كويستاني، الذين ساعدوني في تصحيح العديد من الأخطاء ورفدوني بآرائهم القيمة حتى خرج هذا المنجز كما نقدمه للقراء.. كما أشكر بعض الرفاق الأعزاء الذين أثروا الكتاب بصور خاصة بالأحداث..إن هذا المنجز جاء بتعاون العديد من الأصدقاء، وأعدّه جهدا متواضعا لتعريف نضال شخصية كبيرة وتاريخية من وزن مام جلال الذي دون هذه المذكرات للحديث عن حقبة مضيئة في تاريخ شعبنا، أرجو أن يسد هذا الكتاب فراغا في الحياة السياسية والإجتماعية والفكرية لشعبنا، ومن الله التوفيق..
صلاح رشيد – ربيع 2017
النشأة الأولى
الطفولة، المدرسة، بدء العمل السياسي
* في البدء نود التعرف عليك..
– أنا جلال ابن الشيخ حسام الدين الشيخ نوري، ابن الشيخ غفور الطالباني، ولدت في قرية كلكان التابعة لقضاء كويسنجق، لست متأكدا من تاريخ ولادتي، ولكني حاولت قبل وفاة أمي أن أسألها عن تاريخ ولادتي، ولأنها أمية فكل ما تذكرته أنني ولدت بفصل الصيف، وفق قولها كان ذلك بعام ظهور الفلس العراقي، وهذا يعني بأنني ولدت عام 1933أو1934 على أبعد تقدير.ولكني أرجح تاريخ 1933، لأني أتذكر أنه كان يحق لي دخول المدرسة قبل سنة من السن القانونية المحددة بسبع سنوات، ولذلك أنا متيقن بأنني من مواليد 1933 على الرغم من أن وثائقي الرسمية دون فيها تاريخ 1934 للولادة.
* إذن بداية الدراسة ومرحلة المراهقة أين قضيتهما؟
– بقينا سنوات عدة في قرية كلكان، ثم توفي أحد أعمام والدي وكان شيخا يدير أمور التكية الطالبانية في قضاء كويسنجق، وقد حل أبي مكانه وأصبح مرشدا للتكية، ولذلك إنتقلنا الى كويسنجق، لا أتذكر التاريخ بالضبط، ولكن بإنتقالنا من القرية الى المدينة شعرت بتغير أحوالنا وطريقة معيشتنا بشكل كبير. فكانت للتكية ساحة كبيرة وواسعة يكسوها ؤالأخضر والأشجار حولها، وكانت أصوات الآذان والصلوات الخمس وتلاوات القرآن واذكارات وتسابيح الدراويش تجعلنا نعيش في أجواء دينية خالصة.وأتذكر أنني كنت أرتاد تلك الحلقات وأشارك الدروايش بأذكارهم وأقلد حركاتهم..كما أتذكر بأنني قبل إدخالي الى المدرسة وضعوني في (الكتاب) لتحفيظي القرآن كعادة ذلك الزمان. وكان أحد أبناء عمومتي يدعى كاكةسور يلقننا أشعار الشاعر الشيخ رضا الطالباني، خاصة أشعاره في مديح الشيوخ الطالبانية.
مازلت أتذكر حدثين مهمين وقعا في عام 1941 وهما، حركة رشيد عالي الكيلاني و معاركه مع الإنجليز، والثاني الحرب التي إندلعت بين الألمان والسوفييت بعد إحتلال الأراضي السوفيتية. وسبب تعلق هذه الأحداث بذاكرتي يعود الى أننا كنا واحدا من العوائل القليلة التي تمتلك الراديو في كويسنجق، وكنا نتلقى أخبار العالم منه، ومن خلال الراديو عرفنا بمحاصرة قوات الإنجليز من قبل الجيش العراقي في الحبانية، ثم قضاء الإنجليز على تمرد رشيد عالي وكسر الحصار، وتأكد إنتصار الإنجليز لنا حين وصلوا بمجموعات الى كويسنجق، وعادت صالات السينما لعرض دعاياتها لصالح الإنجليز.
أما الحدث الثاني فمازلت أتذكر جيدا هجوم الألمان على الإتحاد السوفيتي، لأنه في ذلك الوقت كان وكيل قائممقام كويسنجق الشيخ فاضل طالباني والد الأخ خسرو، وبصفتي الإبن البكر لوالدي فقد كان يسمح لي بحضور مجلسه، وهناك كنت أسمع مرارا بأن الألمان سوف ينهزمون بالحرب بسبب جرأتهم للإعتداء على الإتحاد السوفيتي، وقبلها كان الجميع متفقين على إنتصار ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. لكن الشيخ فاضل كان على يقين بإندحار الألمان، ويردد أمامنا بأن نابليون بونابرت حاول بدوره إحتلال روسيا لكنه أخفق وقبل وصوله الى موسكو تم إيقاف زحفه، وفي تلك المرحلة من الطفولة تعرفت على أسماء بعض القادة مثل ستالين ونابليون وهتلر الذين تأثرت بهم. وخصوصا الحرب الدائرة بين ستالين وهتلر والتي أشغلتني و زرعت البذرات الأولى بنفسي لجهة الإهتمام بالعمل السياسي والفكري..
بعد شهر واحد من تلك الأحداث دخلت المدرسة، وهناك إلتقيت بمعلمين كان معظمهم كردا، يحفظوننا الأشعار الكردية ويعلموننا الأناشيد التي تحرك فينا المشاعر القومية. هذه الأحداث برمتها عجلت دخولي الى معترك النضال القومي.وأتذكر أنني كنت في الصف الرابع الإبتدائي حين جرت مراسيم إحياء عيد نوروز في كويسنجق، وكنت أحد الأطفال الذين ألقوا القصائد بالمناسبة، حيث كنت من الطلبة القلائل الذين يلقون القصائد أثناء وقوف الطلاب في الصفوف الصباحية، وكنت أقرأ قصائد الشاعر الكبير الحاج قادر كويي وأشعار الملا محمد الكبير وخاصة القومية والوطنية التي تنشرها صحيفة كلاويز في تلك الفترة.
أما الأساتذة الذين كانوا يدرسوننا فقد تأثرت بعدد قليل منهم وهم الذين وضعوا الأساس الفكري والأخلاقي لعملي السياسي اللاحق، ومنهم معلم التاريخ الاستاذ المرحوم مجيد شيخ نوري، والأستاذ محمد أمين معروف الذي كان أكثرهم تأثيرا علي، فقد كان أحد المعلمين الأذكياء، كنا على العموم مأخوذين بأخلاقياتهم العالية وحسن تعاملهم معنا مما ترك فينا أثرا كبيرا.
وأتذكر أيضا بأنني عندما وصلت الصف الخامس الإبتدائي، كنت قد بدأت أدس أنفي بالسياسة حيث كانت مسألة جمهورية مهاباد تتصدر الأحداث في تلك الحقبة، لم تكن الجمهورية قد تشكلت بعد، ولكننا كنا نسمع بإسم مهاباد يتردد على الألسن، الى جانب الأخبار المتعلقة بإنتفاضة البارزانيين والتي كانت تملأ الصحف الوطنية وتذاع أخبارها في القسم الكردي من راديو تبريز، كل هذه الأحداث شكلت الخميرة الأولى لأفكاري السياسية، الى جانب متابعاتي لما ينشر في مجلة “الوطن” لسان حال جمعية “ز.ك”، أضف الى كل ذلك الحديث الدائر في بيتنا، حيث كان الجميع يتحدثون في السياسة، خاصة حين يحل الضيوف على مجلس والدي، من بينهم الحاج باقي الذي كان أحد المثقفين الأجلاء تم القبض عليه فيما بعد بمدينة السليمانية.
* هل تقصد الحاج باقي مدرس الفيزياء الذي ألقي القبض عليه بأحداث عام 1963 في السليمانية؟
– نعم هو ذاك..تم القبض عليه من قبل البعثيين ثم جرى إعدامه..كان أحد جيراننا في كويسنجق، كان عندما يعود في عطلة الصيف يقضي معظم أيامه في بيتنا ويجلس في باحة الدار التي كان هواؤها معتدلا ليحدثنا عن السياسة، كما أنه كان يدرسني دوما دروس العام اللاحق لدراستي، فعندما كنت في الصف الرابع كان يدرسني مناهج الصف الخامس وهكذا..
ولأن الأجواء في بيتنا خيمت عليها السياسة، وكنت محبا للشعر وأحفظ أناشيد المدرسة، لذلك نما عندي شغف بالسياسة، وتحديدا عندما كنت في الصف الخامس الإبتدائي حيث حلت ذكرى نوروز والتي شكلت نقلة مهمة في حياتي السياسية. فقد طلبوا مني أن أكتب مقالة نثرية بهذه المناسبة، فكتبت المقالة و تحدثت فيها عن تخلف الشعب الكردي و تعرضه الدائم للظلم والإضطهاد، وقلت فيه ان جميع الشعوب تتجه نحو الإستقلال و التحرر بما فيهم اليهود الذين يمضون نحو تأسيس كيانهم القومي، والكرد هم الشعب الوحيد الذي لم يحقق لنفسه شيئا، وبعد أن أنهيت قراءة مقالتي إستدعاني أحد المعلمين وقال لي “إن اليهود هم شعب مثلنا فلم وصفتهم بهذا الإحتقار”؟ في الحقيقة لم يكن قصدي التقليل من شأن اليهود أو أن أكون ضد دولتهم، لأن علاقتي بيهود كويسنجق كانت جيدة جدا، وكان في صفي أحد أبناء اليهود لم يصادقه أحد غيري، وقد أثرت صداقته بي كثيرا، وسبب صداقتي له يعود الى حادثة طريفة.فحينما وقعت أحداث رشيد عالي الكيلاني قام عدد من الطلبة بالهجوم على حي اليهود بمدينة كويسنجق، وكانت مدرستنا تقع في ذلك الحي وتسمى مدرسة اليهود، رأيت هناك مجموعة من الطلبة يرشقون بيوت اليهود بالحجارة، وقد أصيب هذا الصديق بحجر في رأسه وكان ينزف دما، لقد إشمأزت من هذا المنظر وإنزعجت كثيرا، لذلك أسرعت بنجدته وساعدني بعض الأشخاص الذين جاءوا لفض المهاجمين، وكان هذا مبتدأ علاقة الصداقة بيننا.