شكيب كاظم
صباح الثلاثاء السادس من نيسان سنة 1976، قرأت في صحيفتي (الثورة) و(الجمهورية) خبراً يشير إلى أن مناقشة علنية ستجرى عصر هذا اليوم، لرسالة الدكتوراه التي تقدم بها الطالب عبد اللطيف عبد الرحمن الراوي، إلى قسم الدراسات العليا في كلية آداب جامعة بغداد، والمعنونة بـ (الفكر الاشتراكي في الأدب العراقي 1918-1958). وإن لجنة ستتولى مناقشة الطالب مؤلفة من الدكاترة التالية أسماؤهم: يوسف عز الدين، وعبد العزيز الأهواني، والياس فرح، وصلاح خالص، ولما كنت أحرص على حضور هذه الجلسات فقد توجهت عصراً إلى مبنى كلية الآدب لجامعة بغداد في حي الوزيرية، لأفأجأ بإعلان في واجهة الكلية يشير إلى تأجيلها لأسباب قاهرة- كما دون- إلى يوم السبت المقبل 10/ من نيسان.
لم أستطع حضور جلسة المناقشة، لكني سمعت عن النقاش الذي امتد طويلاً وتجاوز العشر ساعات، وإن أحد الأساتذة – لن أذكره اسمه- والمختص بالأدب الأندلسي، وكان متواضع القدرات العلمية، قد رفض الرسالة، وتدخلت جهات، تعددت الروايات بشأنها، فقبلت الرسالة- على مضض- وبقيت حبيسة الدواليب والأدراج ولم تنشر، حتى إذا اختلت موازين الأمور عقيب نيسان /2003، وتوجهت الدهماء تعيث فساداً في كل مرافق البلد عثر عليها الباحث سعدون هليل وازمع نشرها.
المسألة هذه تذكرني بانغلاق عقليات العراقيين، حتى وإن كانوا من حملة الشهادات العليا، فهم نتاج هذا المجتمع، ولربما ذهبوا إلى ذلك خوفاً أو تزلفاً، واعرف خبيراً في دار الشؤون الثقافية، كانت تعرض عليه المخطوطات، كان أشد وطأة على الناس من بيريا وزير أمن ستالين، وأشد قسوة على من كانوا قريبين إلى أفكاره التي تخلى عنها، ليتماشى مع أفكار السلطة، متسلحاً بلقبه الذي كان يستمده من المدينة التي كانت لها السطوة والحظوة وقتذاك.
هذه المسألة وأدت طموحات كثير من الباحثين الجادين، وأصحاب العقول وقلة ما هم، وبودي الإشارة هنا إلى الباحث الجامعي الرصين الدكتور هاشم الطعان (1931- 1981) الذي يصفه العلامة إبراهيم السامرائي (1923-2001) بأنه كان من الأصفياء الأحباء الذين تعلقوا بأصول العلم، وكان له بسبب هذا إخاء ومودة مع طائفة من أصحابه الذين دفعهم ان يسلكوا سبيله.
وإذ كتب الباحث الدكتور عبد اللطيف الراوي، في قضايا تجلب وجع الرأس في دول الراديكاليات الثورية ومجتمعاتها أحادية التفكير فكتب بحثه لنيل الماجستير عن (المجتمع العراقي في شعر القرن الرابع للهجرة) وأردفه ببحث الدكتوراه عن (الفكر الاشتراكي في الأدب العراقي) واقفاً عند البدايات منذ سنة 1918 حتى سنة 1958، فإن الباحث الرصين هاشم الطعان الذي طواه الردى سراعاً، بسبب الإقصاء والتهميش وبخس شأنه إذ منع من التدريس في الجامعة، وهو ما يؤهله له تحصيله العلمي، الدكتوراه وظل مدرساً في الثانويات بل درَّس في الثانويات الأهلية، ومنها الثانوية الجعفرية المسائية التي غيرت الدولة اسمها في السبعينات إلى ثانوية محمد سليمان، وهو السوداني الذي كان عضواً في القيادة القومية للحزب الحاكم، سقطت به الطائرة ومن معه صيف 1971، وكانوا قد أوفدوا لمباركة الحركة الانقلابية التي قادها الضابط هاشم العطا ضد الرئيس السوداني جعفر النميري وتعددت الروايات في حادث السقوط هذا.
آثر هاشم الطعان الكتابة والبحث بعيداً عن أوجاع الرأس، فدرس (الأدب الجاهلي بين لهجات القبائل واللغة الموحدة) فضلاً عن كتابه (مساهمة العرب في دراسة اللغات السامية) الصادر في ضمن الموسوعة الصغيرة سنة 1978، وأنشغل بتحقيق المخطوطات ونشرها.
لقد قرأت بحث الماجستير هذا والذي تولت طبعه مكتبة النهضة ببغداد في إحدى دور النشر اللبنانية، بعد أن لم يحظ بموافقة دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد دار النشر الوحيدة في العراق اوانذاك، تفهم ذلك من إشارة المؤلف في جدول الخطأ والصواب، إلى ان الطبع قد تم في بيروت ولبعد المسافة بين بغداد المؤلف وبيروت الطبَّاع فقد وقعت أخطاء أخرى لا تفوت القارئ اللبيب. تراجع ص399.
الكتاب هذا صدر من غير إشارة للطبعة، ولا تأريخها ولا رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد، وكانت تسمى (المكتبة الوطنية) مع ان مقدمة الباحث مؤرخة في نيسان /1971.
لقد درس الباحث عبد اللطيف عبد الرحمن الراوي في كتابه هذا الحياة العراقية بكل ظواهرها الاجتماعية والثقافية والسياسية، مستعيناً بالشعر بوصفه الذاكرة الجمعية للحياة والصورة المحايثة للحدث ان اختلفت الروايات فيه، واقفاً عند المبتذلين والمجّان والمكدّين والزهاد والمتصوفين وأماكن اللهو ومجالسه والديارات والأديرة والمآكل والعطور والخمور إلى غير ذلك من مظاهر الحياة.
لقد كان الباحث الراوي يطلق أحكامه متأثراً بأفكاره اليسارية عازياً السبب إلى المجتمع الطبقي وصراع الطبقات وما أرى ذلك حقيقة بل السبب هو الإنسان ونزوعه إلى الاثرة وحب التملك فضلاً عن نظام الحكم وليس للطبقات وصراعها شأن بذلك وما من طبقة بعينها منزهة عن اقتراف المآثم والموبقات وليس حكراً عليها ولها.
نلمس في هذه الدراسة – كذلك- اندفاعات الشباب التي كانت تجانب الحقيقة لربما وهو ما أشار إليه الدكتور فيصل السامر -رحمه الله- (1925-1982). في مقدمته للكتاب واصفاً إياها بالجيدة والجريئة والموفقة لإعادة النظر في تقييم تراثنا الأدبي وتقويمه، وإن كانت هناك هنات ومآخذ شكلية ومنهجية أو أخرى نتجت عن الحماسة أو الاندفاع، فإن ذلك كله يجب ان يغتفر لباحث صادق الدوافع سليم النوايا، يحاول ان يصل إلى الحقيقة ويدافع عنها. تراجع ص8.
وإذ لم اعثر على أية مقالة أو بحث للدكتور الراوي، سوى كتابه المنشور الذي أشرت إليه آنفاً فإن الدكتور إبراهيم خليل العلاف، يشير في مدوناته الثرة والثرية إلى انه عثر في دمشق على كتاب صغير ألفه الراوي عنوانه (مقالات في تاريخ العراق المعاصر) نشرته دار الجليل، عثر عليه مصادفة هو الولوع بالبحث عن الكتب القديمة، ولقد شرح الدكتور الراوي الملابسات التي رافقت مناقشة رسالته للدكتوراه في كتابه هذا- كما يدون الدكتور العلاف- قائلاً: إن لجنة المناقشة طلبت منه حذف مبحث يتناول تأثير ثورة أكتوبر 1917 في روسية، على ثورة العشرين في العراق، وإذ لم تنشر الرسالة، فإنه آثر نشر هذا الفصل في كتابه هذا.
لقد اختلفت الروايات في خاتمة حياة الدكتور الراوي، فإذ حدثني صديقي الباحث المدقق الأستاذ سعدون هليل، أنه توفي بدمشق بحادث دهس، من غير أن يحدد سنة الحادث، يؤكد العلاف أنه غادر العراق إثر نيله الدكتوراه وذهب للعمل في الجامعات الليبية والجزائرية، وتحديداً جامعة وهران( وقد علمت بوفاته هناك) كما يقرر الأستاذ العلاف، في حين قرأت في أماكن أخر من مواقع ثقافية، ما يشير إلى أنه عمل في جامعة وهران عند مغادرته العراق- ما يشير ضمناً إلى أنه لم يذهب إلى ليبيا- ثم توجه إلى حمص وعمل في جامعة البعث فيها، وتوفي سنة 1994 بمدينة حمص.
هذا التضارب المؤسف في المرويات على الرغم من قرب العهد بالباحث الرصين الراوي يجعلنا نحار في من يُلام، -كذلك – يجعلنا نقف موقف الارتياب فيما تزخر به الروايات التاريخية، التي يأخذ الكثيرون بها ويرفعونها إلى مراتب المسلمات، وما أذكاه الشاعر الرصافي الذي وقف موقف الريبة حين نظر إلى امر الحاضرين فرابه فيالله كيف بأمر الغابرين نصدق؟