الصبُّ تفضحُهُ قطراتُ الندى
عبد السادة البصري
أن تُعلنَ حبَّكَ على الملأ، مطالباً الآخرين بالحفاظ عليه، صراحة ما بعدها صراحة!، وأن يكون حبُّكَ حلماً ترسمه خيالاتك، لتصنع منه حكايةً ترددها الألسن، عبر مقاطع شعرية تتراقص فوق شفاه الآخرين، إبداع وخلق !!
هذا ما تشتغل عليه الشاعرة السورية (سميّا صالح) عند كتابتها، أو بوحها الشعري، حيث تختلق عالماً من العشق والهيام لتدور في فلكه محلّقة كالفراشة، وتأخذنا معها في رحلة بين ظلال شجيرات الزيتون، ورائحة الزيت، ودخان المواقد، حيث القرية النابضة بالحياة والحبّ والحكايات: ــ
(لم يكن ما بيننا سراً
الكلّ يعرفه
والصبُّ تفضحه قطرات الندى)
هنا سحبت المثل المعروف (الصبّ تفضحه عيونه) إليها لتؤكد أن الندى يفضحه أيضاً، ولأجل أن تديم الحكاية وتؤكد أن قطرات الندى هي التي تفضح العاشقين تأخذنا بين الحقول والبساتين في الليالي المقمرة والنديّة، حيث النسيم وحكايات الجدّات، والنوم قريباً من الياسمين: ــ
(فعلى مرأى الفضيلة التقينا
في حكايات الجدّات
قبل أن نلتقي لنكمل الوعدَ
بمسامرة الضوء)
عند انتهائك من قراءة هذا المقطع الشعري تتبادر إلى ذهنك حتما مسامرة الفراشات للضوء ومداعبتها لخيوط شعاعه، بهذا تمنحك الشاعرة إشارة بأن حكايتها ــ أو قصة حبها ــ لم تكن سرّاً أبدا، بل كانت (سالوفة) تقصّها الجدّات في حكاياتها عندما يتحلّق حولها الأطفال كالفراشات وهي تسامر الضوء.
بعد ذلك تؤكد أنها الأم التي أنجبت هذا العالم، وهذا يعني أنها تمنح المرأة تأشيرة دخول للحكاية، لتقول أن الأنثى هي الأصل في كل شيء، وهنا تدخل الرهان الأزلي الصعب الذي يقول أن المرأة أصل الأشياء، وهي الآلهة الأولى التي خلقت الكون كله: ــ
(من رمشة عينيَّ ولد الكون)
(ألوِّن المدى
بصرخة أنثى
أتقنت فكَّ أسر الخيال)
هذه المرأة ــ الأنثى ــ هي الشاعرة ذاتها التي خلقت الكون عبر كلماتها وحكايات عشقها الأزلي، بأنغام لحنها المنساب على الورق رسمت لنا لوحات من الحب في أحلام لا مثيل لها: ــ
(أتقنت فكّ أسر الخيال
وسرّحته كما الغيم في سماء الشعر
علّها تمطر لحناً)
مع ما تمثلته لنا من حكايات خلْقِها للحبّ والكون والعاشق والمعشوق، تستدرك بأن الغياب / الضياع / الاحتضار / الموت لن يخيفها أبداً رغم رهبته، ومجهولية ما سوف تراه في رحلتها هناك، لأنها حتماً ستكون أمام فارس أحلامها، وفتاها التي رسمت صورته في مخيلتها وعلى شغاف القلب: ــ
(لا ضيرَ
في أن أحتضر
وأنا أسترقّ النظر إلى عينيه
لا ضير
في كل ذلك)
ففي حالة حضوره ووقوفه أمامها ساعة الاحتضار سيتبدد كل شيء وستكون النهاية انتصارا، هنا تتمثل صورة الفراشات التي تداعب بأجنحتها عشق الضوء وتظل تتراقص أمامه حد الموت احتراقاً، ثم تتغنج قليلاً، بل تتدلل، أو تدلل حبيبها بكلمات راقصةٍ: ــ
(أنا ظلُّ شِعرِك
في البديع
وفي المعاني أنت ظلّي)
لتعود من حلمها الأثيري مؤكدة أنها حصلت على تعويذة عشقه حينما صارحها بقوله: ــ
(صرتِ أنثاي التي أحببتها)
لتعود وتصرخ بكل عنفوان الوله والهيام: ــ
(إنني أنثاك
بل يا سيد الحرف الذي هزَّ الحجارة
دفق أشواقٍ اتى منك
وما أحلى البشارة)
لأنها معجونة بالشعر فهو فارسها الملهم ــ الشعر حبيبها الأزلي ــ وحبها الأول والأخير بكل ما له وما عليه، لهذا ترسم لنا لوحةً للعشق والعاشقين وحكايات لا أول لها ولا آخر ممتدة على طول المدى بكل ما فيها من خفايا وأسرار وأشواق وتأوهات لكنها في نهاية المطاف تبدو حلماً: ــ
(فتعالي يا ملاكي
في زوايا الشعر نسكر)
الشاعرة هنا تؤكد قول الشاعر الفرنسي شارل بودلير (عليكم أن تسكروا بالشعر)
سميا صالح شاعرة تمتلك زمام جملتها، وسحر حديثها عبر صورٍ اختزنتها ذاكرتها مما عاشته وتعيشه بين بساتين الزيتون، وأحاديث القرية والفلاحين، حيث تسحب الشعر إليها لتحوك منه سجّادة دمشقية عليها صور العاشقين التي رسمتها أشعة الشمس عند مداعبتها سواقي الماء في المروج.
رغم إنني لم أقرأ لها سوى بضعة نصوص وقعت بين يدي إلاّ أنني وجدتها شاعرة توعد بالكثير، تتمثل القديم بالحديث من خلال تضمينها لبعض الأمثال والصور البلاغية ومزجها بالقصيدة لتكتبها تفعيلة أو نثرا.
(سميا صالح) شاعرة ستعطينا الأكثر ما دامت تسكنها القرية وخرير الماء وتغريد البلابل ، لهذا ننتظر منها ما سيجيء عبر حكايات حلمية لتفضح الصبَّ قطراتُ ندى الشعر !.