على حين غرة، يكتشف المرء أنه أمضى شطراً طويلاً من حياته في الشارع، سائراً فيه، أو ماراً منه. وأن شطراً آخر منها، سينقضي بهذه الطريقة أيضاً. فهو المكان الذي لا يمكن الاستغناء عنه، أو الفرار منه. لأنه لازمة من لوازم الحياة في هذا العصر.
في الماضي، كان الجلوس على ناصية الطريق كبيرة من الكبائر. وكان الناس يخطرون فيه بخفة، حتى لا يرمون بسوء. لكنهم باتوا اليوم لا يفارقونه إلا لماماً، وغدت المقاهي التي يستريحون فيها، تحتل جزءً غير يسير منه، فلا يشكل عليهم، أو ينال من أعراضهم، أحد.
ليس هذا فقط، بل إن ما يحدث في هذا الشارع من مفارقات هو محور حديث العامة، دون استثناء. ففيه يبدأ العالم وينتهي. وفيه تولد الحياة ثم تخبو، كل يوم.
ولكن الشارع له وجه آخر معتم. فمثلما يلقى المرء فيه ما يحب، يجد فيه أحياناً ما يكره. فهو غير معني برغباتنا الخاصة، أو نزعاتنا الشخصية.
ولكل شارع اسم، يعرف به بين الملأ. يولد معه، ويموت معه. فهو مثل وليد صغير يحتاج إلى أداة تعريف تلازمه حتى النهاية.
في السنوات الأخيرة لم يعد اسم الشارع يعبر عن معناه الحقيقي. فليس هو ذلك الممر الحيوي الذي تتهادى فيه السيارات والعربات والأشخاص جيئة أو ذهاباً، وليس هو ذلك الذي تتناثر الأسواق على جانبيه يميناً أو شمالاً، وليس هو ذلك الشريان، الذي يخترق المدينة صعوداً أو نزولاً. فمثل هذه الأوصاف لا يحفل بها الناس هذه الأيام، لأنهم يعتقدون أن هذه هي وظيفته التي خلق من أجلها، ولا جديد في ذلك يستحق الإشادة!
قبل عقود من الزمن، كان هناك شارع شهير اسمه شارع الصحافة. وكان هذا الاسم في حينه صادماً. فلم يكن المقصود منه المكان الذي تباع فيه الصحف، بل المكان الذي يتواصل فيه المرء مع الخبر. وكان مثل هذا الوصف مقبولاً في برنامج إذاعي، ينقل المعلومة للناس دون مقابل. لكنه غير مألوف على الأرض.
لكن الشارع الآن تحول عن مهمته الأولى. فهو موقف سياسي واجتماعي وأخلاقي، يعبر عن إجماع الطبقات الشعبية أو عموم المجتمع فيما يجري على الأرض، أو ما يحدث في أروقة الحكم، أو ما يتردد في أوساط أخرى داخلية أو خارجية.
أي أن الرأي العام الذي يصنع تلقائياً، أو بفعل فاعل، أو بتأثير جهات متنفذة في البلاد، أصبح يعرف الآن بالشارع. ولا يجد الناس في ذلك غضاضة أو إثماً!
ولأن كل شارع يبدأ أو ينتهي بساحة مستديرة أو مربعة أو مثلثة، فقد غدت هذه الساحات تؤدي وظيفة أخرى، غير وظيفتها المرورية المعروفة. فهناك الساحة البرلمانية، والساحة الرياضية، والساحة الأكاديمية، والساحة الثقافية، وغير ذلك من الساحات.
بعض الكلمات تتغير مدلولاتها بمرور الأيام، صعوداً أو نزولاً، وتتحول إلى شئ آخر لا علاقة له بالأصل من قريب أو بعيد. مثل هذا الأمر هو الذي يدل على حيوية اللغة، وقدرتها على التطور مع الزمن. فليس ضرورياً أن يتلاعب البعض بالنحو، أو الصرف، أو يأتي بكلمات أجنبية أو عامية، ليبرهن أمام الملأ أن العربية كائن حي، قابل للتغيير! يكفي أن يتناقل الإعلاميون مفردة ما لتصبح شيئاً آخر، غير الذي عرفته معاجمنا العربية منذ قرون!
محمد زكي ابراهيـم