سلام مكي
رغم انشغالاته المعرفية والثقافية المتعددة، لم يستطع احمد الناجي، الباحث والمؤرخ الحلي، ان يتخلص من سطوة ناجح المعموري الثقافية عليه، مثله مثل باقي المقربين من المعموري، الذين أنجزوا كتبا، ومقالات تتحدث عما جنوه في رحلتهم مع المعموري. الناجي وفي كتابه الصادر حديثا عن دار تموز( ناجح المعموري.. غواية الأسطورة وسحر الكلام) يسعى لأن يملئ فراغا في المكتبة الأدبية والثقافية عن المعموري، من خلال الدخول في عوالم لم يمر عليها احد سابقا، رغم انه لم يكن اول من كتب عن المعموري. تلك العوالم تتمثل بالتشكلات المعرفية والثقافية الأولى لناجح، والتي ساهمت في وصوله الى طريق الأسطورة والميثولوجيا، وتخصصه فيها، من كتاباته الأولى المتمثلة بالقصة والرواية وصولا الى آخر كتاب صدر له. وما يميز كتاب الناجي هذا، هو المصادر التي استقى منه معلوماته، حيث انها ليست مجرد مصادر تحتويها المكتبات، بل هي عبارة عن صحف قديمة تعود الى عقود مضت، وقد اعتمد الناجي على تلك الصحف التي صدرت في مراحل مختلفة بداءً من منتصف السبعينيات الى أواخر العقد التسعيني، وهذا يدل على ان احتفاظ المعموري بأرشيف صحفي ضخم، عكس كثير من الأدباء الذين لا يملكون ارشيفا لمنجزاتهم او ما يكتب عنهم من مقالات او بحوث. وهي مقابلات واتصالات في الهاتف، استطاع الناجي وبعد صبر وتأن طويلين ان يجمع مادة طويلة، عن ناجح المعموري، لينتج بها كتابه هذا. ولعل الصعوبة الأبرز التي واجهت الناجي ليست تأمين شواهد عن منجز المعموري الإبداعي، بل ان الصعوبة تكمن في إيجاد علاقة متوازنة بين الصلة التي تربطه مع ناجح وبين الموضوعية التي لا يمكنه ان يتخلى عنها مهما كانت الظروف. لكن الناجي استطاع ان يتغلب على هذا المأزق، عبر توثيقه لجميع مصادره مهما كانت طبيعتها وجعلها خاضعة لاشتراطات البحث الاكاديمي الرصين. يلمح الناجي في الفصل الأول من الكتاب وهو تحت عنوان( النشأة والتكوين) الى ان البيئة الأولى التي عاش بها المعموري والتي كانت تقع في منطقة تجمع بين التاريخ القديم وبين الماضي القريب، منطقة تجمع بين ثقافتين مختلفتين، هما بابل والحلة. هي منطقة تسمى عنانه. فكانت اطلاق الحضارة التي تقع بالقرب من بيته القديم، ونهر الحلة الذي يجاور بيته، من الروافد الأولى التي ساهمت بتشكل النهر الذي سيمتلئ بالثقافة والأدب فيما بعد. وكما يقول الناجي .. فقد تحول جريان النهر علي يد ناجح، ليس على الأرض، وانما على الورق، ليتخذ شكلا اوليا وهو قصة، ثم بعدها يستقر عند رواية.. وانتظر ناجح طويلا حتى فاض النهر من بين الورق، ليكون على شكل رواية نشرت عام1978 عن وزارة الثقافة. وينقل الناجي عن ناجح قوله: كنت قاصا حاول ان ينسج الكتابة القصصية تناظرا او تماهيا مع الحكاية الشعبية، واعتقد ان السبب في ذلك يعود الى كوني نتاج بيئة زراعية قروية. ويحاول الناجي، تلمس البدايات الأولى لتوظيف الأسطورة عند ناجح والانتقال من الكتابة الروائية والقصصية الى الكتابة عن الأسطورة، تلك الكتابة التي ساهمت بتحول كبير في اشتغالات المعموري الإبداعية، وجعلته يرى في النص انه كائن حي، فيحاول بناءً على ذلك، ان يسعى الى خلق كائن حي خاص به، مخلوق من نفس الكائن الأول. وقد تلمس الناجي، ذلك التحول في قصة( شجرة الشاطئ) ومن خلال اسطورة أتانا التي قام بتأليف قصة بعنوان( لعنة الآلهة أتانا) حيث حاول المعموري من خلال هذه القصة استثمار الخزين الذي يملكه في التأسيس لمرحلة معرفية جديدة في حياته الأدبية والثقافية. وعن هذه القصة، ينقل الناجي رأي الكاتب جاسم عاصي عن القصة بقوله: أكدت قدرة القاص على تخليق اسطورة، انطلاقا من الواقع، أي المزج بين ما هو واقعي وما هو موروث، ودخولا الى ثيمة الأسطورة ودمجها في صيرورة واحدة، بحيث انتجت نمطا من الموضوعة المخلقة التي اقتبست وارتكزت على الواقع في آن واحد…
ان ما يميز كتاب احمد الناجي عن غيره من الكتاب التي تناولت ناجح المعموري، هو استثماره لما اهمل وهمش من قبل الذين سبقوه، ليجعل من متنا والباقي هامشا، الناجي، قرر ان ينقّب في أرشيف مضت عليه اكثر من ثلاثة عقود، إضافة الى تنقلاته من مكان لآخر بغية الحصول على معلومة تخص بحثه. فكانت سيرة ناجح الأولى والعوامل التي ساهمت ببروز ناجح كمثقف بارع، استطاع ان يؤسس لنفسه نسقا مختلفا عن غيره، وطريقة مغايرة للتعامل مع النصوص التي تقع بين يديه.