ترجمة محمود عبد الغني
أجرى «ملحق الكتب» بجريدة لوموند الفرنسية (عدد الجمعة 29 يونيو/ حزيران 2018، حواراً مع الكاتب «سيلفين تيسّون» حول كتابه الصادر مؤخراً «صيف مع هوميروس» سنة 2018. وهو كاتب فرنسي من مواليد سنة 1972. عُرف بأسفاره الكثيرة وتسلّقه للقمم، إذ تسلّق سنة 1997 قمة جبال الهملايا مشياً على الأقدام. ولعل روايته عن هوميروس هي كناية عن تسلّق أدبي مثير. هنا حوار معه.
ظل «سيلفان تيسّون» طيلة شهر يوليو 2017، مرة في الأسبوع، يقترح على مستمعي إذاعة «فرانس انتير» الفرنسية الغوص في العوالم المختلفة ل»الإلياذة» و»الأوديسا». وقد سجّلت السنة نفسها ظهور أعمال أدبية مستوحاة من هذا العمل الهوميري، نذكر منها: «من الأوديسا» لدانييل مندلسوم (فلماريون، 2017)، «في سيرسي» لمدلين ميلر، مروراً ب»كاليبسو» لآن ليثو، 2018. لكن «صيف مع هوميروس» سجّل نجاحاً كبيراً، بالنظر إلى إقبال القراء عليه.
هل من جديد تحت الشمس؟ أنت تُجيب: هوميروس. وعدد الروايات الصادرة مؤخراً شاهدٌ على ذلك؟
تشكّل «ملحة جلجامش» و»الإلياذة والأوديسا» جزءاً من القصائد الأولى التي أبدعتها الإنسانية، التي نُقلت إليها. هذه القصائد تصوّر سلسلة من الأحداث في مرحلة معينة، على جزء من الكرة الأرضية، إضافة إلى وصف العوالم الكبرى داخل الإنسان. لهذين السببين، فهذه الأشعار تؤسس للأدب باعتباره تصويراً وكشفاً عن لغز الإنسان. إن من من بين أهم توظيف اللغة هو التناظر، الذي يقتضي ربط وضعيات منفصلة مع بعضها لكن اللغة تستطيع تقديمها باعتبارها متشابهة. وقد استعمل هوميروس ذلك في أحيان كثيرة، مستمدّاً المقارنات من مملكتي الحيوان والنبات. إن تسمية الأشياء الغائبة وما هو غير مرئي هي وظيفة أخرى قام بها أدب هوميروس.
هل هوميروس بقي حيّاً لأنه وصف كل الثوابت في روح الإنسان؟
عوليس رجل متناقض ومركّب، لكن هناك شخصيات أكثر أحادية، بين الإنسان والآلهة، وكل واحد يرمز لتوجّه أو علّة. لقد رسم هوميروس كل اللوحة: البلاهة، الجنون، العُصاب، الرغبة في البقاء على قيد الحياة، في تناسلنا، إشباع الذات، ذكريات عن الأشياء التي أحببنا، محاولة العودة إلى العمر الذهبي…إن الإلياذة والأوديسا تنقل كل الدوافع الإنسانية. من هنا جاءت جملة هنري ميلر (1891-1980): «نظرية التحليل النفسي ليست سوى تطبيق للأساطير الإغريقية على الأجزاء التناسلية». منذ هوميروس لا أجد أن الإنسان تجدّد، أو جدّد نفسه. لهذا السبب ف»الإلياذة» و»الأوديسا» أدخلتاني إلى عالم السعادة والحزن في الآن نفسه.
«الإلياذة» و»الأوديسا» هما أغنيتان عن التفوق والشجاعة، كلمة «منسية في أعماق طبقة أركيولوجية»، هذا ما كتبته. لكننا نرى، في الأزمنة الأخيرة، كم بقيت هذه الحاجة حيّة؟
إن شهية البطل، والفرادة التي تطبعه، جعلتا منه وجهاً مشهوراً. إن نُدرة وخطورة فعل البطل ميزتان خالدتان. غير أن تحديد البطل، بمعنى الإنسان الذي يتميّز عن الحشود ويشكل مثالاً لها، مفهوم تطوّر منذ هوميروس. البطل يحمل على عاتقه مهمّة تجسيد المسالك، القيم التي تحملها ثقافة شهيرة في لحظة معيّنة. اليوم، الضارة الأوروبية تعزّز مقولة نهاية الظلم الاجتماعي. إنها تطمح إلى محو الانقباض الوطني، وبدأت تغذّي نوعاً من الحس من أجل المساواة، بهدف النصر بحيث كل مواطن يمكن أن يحقّق ذاته داخل مجاله الفردي.
قلت في كتابك إن العالم الميثولوجي ليس عالماً أخلاقياً، وإننا نمتلك مستويات عادية في الحكم. أليس ذلك هو أحد إغراءات شعر هوميروس؟
يوجد في إحدى القراءات الوثنية، ما أطلق عليه ألبير كامي في «أعراس» (1950) «قبول العالم»، هذه الفكرة الجميلة التي نلصقها بالعالم. إن الدّرع الواقي الذي صنعه «هيفيستوس» ل»أشيل» يجسّد هذا الأمر، حين يمثّل وصفاً شاملا للواقع، حيث الغابة، البحر، القرية، المدينة. كل شيء هنا ويجب أن نحبّه لأنه موجود هنا، ينبغي القبول به، والاحتفال بما سمّاه الإغريق «لمعان العالم»، بدون ملابس ال»أرلوكان».
إن التوحيد فكرة عظيمة، لكنها مأساة كبيرة بالنسبية لقبول الأشياء. لأن الطاقة الخلّاقة تصبح خارجية حين خلقها، فتتخّذ مسافة، لكنها في الفكر الوثني، يوجد الاثنان في عالم الإنسان، الحيوان والنبات.
والمفارقة القديمة هي انتفاء تأليه الاثنين. إنهم أناس بسلطات خارقة. يحكمون نفس البيت في الأولامب أو على الأرض. من هنا جاء سؤال المؤرخ «بول فيين»: «هل كان الإغريق يؤمنون بأساطيرهم؟»، الجواب المحتمل هو: لا.