للقاص ضاري الغضبان
انمار رحمة الله
يأخذنا القاص والسيناريست ضاري الغضبان، في مجموعته القصصية( الحب في زمن الطنطل) الصادرة في النجف الأشرف_ 2018، في رحلة عبر عوالم تنوعت بين الواقعية والواقعية السحرية والغرائبية. مع إضافة اللمسة الخاصة بكوميديا سوداء، جعلت من قراءة النص القصصي عند الغضبان، أشبه بالتوغل في أرض مليئة بالفخاخ المفاجآتية.
تمتاز أغلب نصوص المجموعة بمزيتين مؤثرتين في إنجاح القص لديه، المزية الأولى اختياره لمواضيع مركبة، متشابكة في مدلولاتها، ولكنها متحدة في أثرها الرؤيوي. والمزية الثانية هو أسلوب القاص الذي ينتمي إلى مساحة كبيرة من شخصيته الخاصة ، وهذا ما وشت به إحدى قصصه عبر نسق مضمر يكشف عن ماهية أسلوب القاص الشخصاني( أنا بطبعي أكره الانتظار- ص58)، والقصة القصيرة الجيدة بالطبع تلك التي تكره الانتظار، بل تصيب الهدف كطلقة( على حد تعبير يوسف إدريس).
أسلوبه في اللغة والوصف البياني الاستدراجي، يكشف عن مهارة كاتب تمرّس على صناعة المشهدية في النص القصصي، علماً أن القاص قد أشتغل على السيناريو من قبل، مما يسمح له بإتقان صناعة الحدث، بعيداً عن الترهل والحشو، مقترباً من الاختزال والوحدة والتكثيف، ولعمري هي من أكثر خصائص القصة القصيرة تأثيراً في صناعتها الفنية. لم يرتفع القاص بلغته عالياً، كان تحليقه ضمن الوصف البياني كما أسلفت، مبتعداً عن الوصف البلاغي والشعرنة التي قد تفسد روعة تلقّي الحدث في قصصه، هو أختار اللغة التي تخدم بشكل كبير مواضيع واحداث قصصه، على اعتبار أن الموضوع في السرد هو ما يحدد لغة النص لاحقاً (على حد تعبير إمبرتو إيكو).
اشتغل الغضبان على أربع خصائص مهمة في تشكل النص الإبداعي، العاطفة – الخيال -الفكرة – اللغة، والقارئ حين يقرأ نصوص المجموعة قد يُشكل في عدم انطباق خصيصة مهمة تأتي في مقدمة خصائص القص( الوحدة)، وذلك متأت من كثرة أحداث القصة، وتفرعاتها واحتدام شخصياتها، واستجلاب بعض الأحداث الجانبية التي تقوي جانب الحدث الرئيسي، ولكن إضافتها بهذا الشكل يعطي روعة أخرى، لأن الشكل الظاهر للقصة عند الغضبان، كالمرآة المتشظية، قد تختلف في شكلها من حيث التركيب، ولكنها تتحد مع الموضوع من حيث الأثر. فكل جملة في قصص الغضبان هي قصة قصيرة جداً، تشكل مع الجملة اللاحقة والجملة السابقة نصاً لامعاً.. في قصة (علامة تعجب – ص7) التي تصدرت قصص المجموعة، يؤنسن القاص علامة تعجب، ويجعل منها عدسة باحثة عن مجاميع المدمنين في المدينة الذين اختفوا فجأة. في عملية بحث هذه العلامة التي تتراءى للقارئ محلقة، أول شيء يصادفها الجامع الكبر في المدينة، وشخصية إمام الجامع والصراع الحادث بينه وبين (الباحث الاجتماعي) حول كيفية محاربة الإدمان. مما جعل الإمام يشتم العلمانية ولابسي الأربطة وحالقي اللحى( وهي ذاتها مواصفات الباحث)، ليكشف لنا القاص ماهية العلائق الرابطة بين ما يمثله التيار الديني، والتيار العلمي الموضوعي، وذلك الصراع الدائر حول أحقية من في تسيير المجتمع ووضع الأنساق الفكرية. ثم يتفجر صراع آخر في المقهى بين الباحث وبين زبون كهل، فينصحه الأخير بترك الكلام عن السياسة والاقتصاد، والتفرغ لطروحاته في الاجتماع.
وتظل علامة التعجب مثل الكاميرا التي تلتقط صوراً لمشاهد في واقع المدينة، بحثاً عن المدمنين مع خيط يربط أحداث القصة الرئيسة( إمام الجامع والباحث)، اللذان اقترباً في النهاية في عملية مصاهرة، وبالتالي تكتشف العلامة أن المدمنين محتجزون في بستان كبير لإحدى السياسيين، وقد وزع عليهم لفافات الأفيون، وهو يجهزهم للإدلاء بأصواتهم نصرة له في التصويت القادم. بالطبع هي إشارة إيحائية جاءت بسياق درامي لم يخفت توهجه، للدلالة على ما يحدث الآن في واقعنا الحقيقي، فالأصوات التي تذهب للسياسي كريم العين في القصة( والعور هنا إشارة إلى النظرة الأحادية)، ماهي إلا نتيجة لإدمان ايدلوجي وفكري واجتماعي محدد، قد أنتفع به ذلك السياسي الفاسد.. في قصة (دَين – ص35) يطرح القاص محنة أخرى من المحن التي يعاني منها الأنسان، الدين في رؤية القاص هنا هو القيد الذي أمسك برقبة العائلة، حتى أصبحت منبوذة من قبل المجتمع، ولم يعد أحد راغباً في المواصلة عيشاً معها.
ثم ينتهي الأمر بسكن شخصية القصة(ابن الرجل كثير الدين) في سيارة أبيه المهجورة خارج المدينة، بعد أن رفض دار المسنين سكنه مع امه لصغر سنه. ولكن في السيارة العاطلة استقبل الابن ضيفاً( الكلبة التي كانت تبحث عن مأوى)، وبالتالي صار صاحب فضل على هذه الكلبة لإيوائها. في الحقيقة الموضوع يقترب فنياً من صناعة القصة. فالقصة منذ نشأتها لم تكن ملحمة لأبطال، بل كانت ومازالت تتحدث عن المغمورين والمأزومين، «والحق أن القصة القصيرة لم يحدث أن كان لها بطل قط، وإنما بدلاً من ذلك مجموعة من الناس المغمورين»( فرانك أوكنور – الصوت المنفرد ص13). شخصيات ضاري الغضبان هي شخصيات تعاني من أزمة، وحالة من التجهيل والاحتيال والكآبة المزمنة. ولكن هذا لا يعني أنها غير واعية، فالقاص يطرح لنا شخصية أخرى غير بطولية، ولكنها حالمة ومكتفية بعالمها و براءتها، شخصية المعلم المتقاعد في قصة (فقدان قمر- ص37). القصة ذات منحى غرائبي – إدهاشي ، عن فقدان القمر مع ضجيج لسكان المدينة بحثاً عنه. ومباشرة اعادت لي القصة فكرة قصيدة للشاعر المصري الراحل ( أمل دنقل)، عن فقدان القمر في المدينة، ولكن حين سألوا عنه وجدوه في الريف بكامل أناقته ولونه الفضي. أعادت لي القصة صورة تلك القصيدة، ولكن ما ميز قصة فقدان قمر، هو الخاتمة.
لقد كانت القصة ذات خاتمة شعرية من نوع قصيدة النثر. وبهذا يعطي القاص في بنائه وأسلوبه صعقة مركبة، من الدهشة والاشتغال الفني، وتجاور لنصين من جنسين مختلفين، في خاتمة ذات طابع شعري عاطفي رقيق.. في قصة (الحب في زمن الطنطل – ص53) وهي القصة التي عنون القاص مجموعتها باسمها. نجد مثالاً واضحاً للواقعية السحرية، أسلوباً ولغة وثيمة.
لقد نقل صور لنا القاص مشهداً من مشاهد الحب وبقائه عبر الزمن، مستذكراً في قراءتي خوفينال أربينيو وفارمينا داثا) بطليّ الحب في زمن الكوليرا. قصة تحكي لنا عن تطلعات الرجل الرومانسية، والرغبة في بقائه عند منطقة محددة وجميلة في حياته ( حبيبته الأولى). بصورتها وهيئتها النفسية والفكرية والروحية القديمة، وهذا ما وجده بطل القصة في بنت حبيبته التي كانت تشبه أمها، وترك أمها الحقيقية مع زوجته تثرثران عن أمور بعيدة عن رغبة الرجل العاشق ذي العمر الخمسيني.. وهناك قصص أخرى لم يتسن لي التطرق لها، بعضها واقعية – اجتماعية كـ (مقطع عرضي للريف – ص17)، وبعضها رمزية -انتقادية كـ (ديموقراطية الغابة ص103)، سيجد القارئ في قصص الغضبان لذة المتابعة، والحدث المشوق، مع وضوح في وجهة النظر، ودراما حيّة متحركة صوب نهايات مختلفة غير مخيبة لفرصة كسر أفق التوقع، مع اشتغال لا بأس به من ناحية الأسلوب وصناعة الحدث والتبئير.