تصوير النماذج الحيّة: بين بيكاسو وماتيس

أسعد عرابي

معرض مقارن جديد آخر يُضاف إلى سلسلة العروض المتقابلة، التي شاعت خلال الموسمين (السنتين) الأخيرين، وصحّح بذلك منهج علم الجمال المقارن الذي ابتدعه منذ نهاية القرن التاسع عشر الفرنسي إتين سوريو، وطبقه تلامذته من كبار الباحثين والمسؤولين عن متاحف الفن المعاصر والإشراف على عروضها تحت صفة المفوض (أو الكوميسير).
وبعض الأسماء النّجومية منها فاقت شهرة رواد الفن أمثال فرانك بوبير وبيير ريستاني وجيرار إغسيروغرا وجان مارتان وغيرهم. وأعتز بمعرفتهم والعمل ضمن منهجهم ميدانيًا وعن قرب، سواء بالمشاركة في تنظيم المعارض والندوات أو التحكيم، أو بالمشاركة بالكتابة في مجلات نقدية مختصّة، أو تحرير مقدمات كاتالوغات مثل هذه الحشود من المعارض المقارنة.
لكن المقارنة هذه المرة تجري بين منتخبات من ميراث عملاقي التصوير الفرنسي المعاصر: هنري ماتيس وبابلو بيكاسو، وبالتحديد في متحف ماتيس الشهير في مدينة نيس عروس الساحل المتوسطي اللازوردي الذي يجمع مرافئ «الكوت دازير» التي كان يسعى فيها نشاط الاثنين، مثل موجان وفالوريز وفانس. هو المعرض الذي يندرج ضمن احتفالية شمولية عالمية أكبر بعنوان «بيكاسو والمتوسطية»، إذ من المعروف أنه من مواليد مالقة الأندلسية القطلانية عام ١٨٨١م حيث تعانق أكبر متاحف أعماله اليوم، لكنه استقر في هذه المدن المتوسطية القريبة من فرنسا لأنه كان معارضًا لفرانكو، وكان ممنوعًا من العودة إلى بلد الأصل إسبانيا، حتى توفي عام ١٩٧٣ في موجان. أما غريمه وصديقه هنري ماتيس فمولود عام ١٨٦٩م ومتوفى عام ١٩٥٤م في فرنسا.
إذا تأملنا هذه الأرقام نلاحظ أن ماتيس توفي قبل بيكاسو بما يقرب من عشرين عامًا. ومن الشائع أن ماتيس كان يتهم دائما رفيق عمره بيكاسو باختلاس أفكاره، بل وسرقة بعض أشكاله المختزلة، بخاصة في مرحلة القص بالمقص للمساحات الملونة مباشرة. وذكرت سابقًا أن أمثال هذه المعارض ومنهجها المقارن صحّحت أكداسًا من الأفكار النقدية المسبقة. لو تأملنا المعرض اليوم (الذي يعانق أعمالًا فنية من التصوير والنحت: خمسون من الأول ومثلها من الثاني)، سنجد مئة عمل فني تؤكد موضوع المقاربة في «تيمة» العنوان: «ماتيس – بيكاسو وكوميدية الموديل»؛ والعبارة مستخرجة من رواية أراغون المستلهمة من سيرة ماتيس وعلاقته الحميمة بنماذجه الأنثوية المصورة والموثقة مرارًا معه. أما بيكاسو فقد أنجز مجموعة من أشهر رسومه بالحبر الصيني مستلهمة من تكبير صور الأختام الرافدية (أكاد وآشور وسومر وبابل وماري الخ). تمثل «الرسام والموديل الأنثى»، لكن المعرض حفل بلوحات معروفة أكثر عن موديلاته بالألوان الزيتية.
تبتدئ المقارنة من حميمية «الأوتوبورتريه» بأقلام الفحم الهشة (فوزان أغصان الكرمة المفحمة) يصوّر فيها كل من الاثنين صورته الشخصية في المرآة. فالموديل في هذه الحالة هو الفنان نفسه. وتتزامن مع المعرض قراءات أدبية نسمعها دون أن نرى قارئها، تلامس هذه الحميمية، كان كتبها الشاعر مالارميه لهنري ماتيس.
من المعروف أن بيكاسو كان يحفظ احترامًا وتقديرًا خاصًا لشخص وفن ماتيس. تأمل موروثه الأخير يوم وفاته، فامتص مباشرة رحيق التعريقات نصف التجريدية المقصوصة من الأوراق الملونة، بادر بعدها مباشرة لتناولها من جديد ثم تطويرها. لامه بعض النقاد على استباحته لفن ماتيس بعد وفاته فأجابهم بأنه لا بد من الاستمرار في هذا البحث لأهمية اكتشافه، وبأنها طريقة خاصة لتكريم رفيق عمره.
تقع أهمية المعرض في تصحيح صفة التناقض الأسلوبي والفكري المطلق، وذلك بالبحث عن وحدة الموضوعات، ومحاولة تأويل الموديل الحي بحدسية لا تقبل سبق التصوّر، من اليقينيات الشائعة والثابتة بمطلقها خطأ تتمثل في الصبغة الروحية الصوفية لماتيس واقتصاره في التعبير على تنزيه المسطحات اللونية واتصالها بموسيقى المقام الأفقية استغراقًا منه في موروث الفن الإسلامي، وأن بيكاسو كان عكسه ماركسيًا ستالينيًّا (وجدنا في جيبه صورة ستالين عند وفاته ناهيك عن تصميمه لشعار الحزب الشيوعي الفرنسي حمامة السلام)، ناهيك بتوحّده مع سحرية الأقنعة الأفريقية وعقائدها الوثنية. يناقض المعرض هذه المبالغة بتأكيد سلام العلاقة والاحترام المتبادل رغم حذر ماتيس، فالتباعد بين الاثنين يرجع إلى استقلال قوة شخصية كل منهما، مع فارق العمر، فماتيس أسس تيار «الوحشية» (إلى جانب ديران وسواه) عام ١٩٠٥م، في حين أسس بيكاسو التكعيبية مع جورج براك عام ١٩٢٠م. والفرق بينهما جذري، فمقامات الألوان الروحية الرهيفة التي تميّز بها ماتيس، بتأثير تقاليد المنمنمات (رسوم المخطوطات العربية) وسواها، تقع في الخط المعاكس للجدلية المادية السيزانية التي قادت إلى تحويل المرئيات إلى قوالب هندسية عقليّة رياضيّة. النتيجة تناقض هذه المحفوظات، فلوحات الاثنين نتيجة حدسية قلبية شطحية تقع في نفس مساحة التعبيرية: تارة الخطية الشكلية، وتارة اللونية. اختيرت اللوحات وفق نواظم هذا المنحى الرهيف والمجدّد.
يدعو المعرض المشاهد للبحث في أعمال الطرفين عما هو تصحيح ومناقض للأطروحة النقدية التبسيطية (حتى لا نقول المتعسّفة) في تخيل الطلاق المطلق بين المعلمين. فأعمال ماتيس لا تخلو من بنائية مكملة لعاطفية ألوانه، نجدها في الخطوط المتعامدة ما بين النافذة والجدران والمرايا والطاولة (مثله مثل نظيره بونار) بل إن تمثاله المعروض أقرب إلى التكعيبية منه إلى الوحشية، كذلك الأمر لدى بيكاسو إذا راجعنا أعماله المختصّة بموضوعات المهرجين والسيرك والأرلوكان وجدناها بالغة العضوية في منحنياتها، مثله مثل ماتيس يتجنّب الأسلبة الباروكية وذلك بالعمل في عكس تياره النظري، وبيكاسو في تلك المرحلة يصّور بهلوانيًا الراقصة الأنثى تعربد على كرة حرة قلقة بعكسها الرجل الذكر الراسخ على مكعّب على الأرض.
أما اختيار عنوان أو موضوع المعرض «كوميدية الموديل» فهو بالغ الدقة، لأنه يشير إلى شراكتهما في التعامل مع الواقع بتأويل لا يخلو من السخرية والعبث، كل منهما على طريقته.
يحتاج إذًا منهج علم الجمال المقارن المطبق في اختيار المعروضات إلى التحليل العمودي البعيد من سكونية الأحكام المسبقة، كما تشرح مفوضية المعرض، الكوميسير كلودين غرامو، مديرة المتحف الأصيل والمشهور باختيار موضوعات نخبوية لمعارضه، وذلك منذ تأسيسه في فترة الرئيس شارل ديغول، حيث جمع وزير ثقافته أندريه مالرو عن طريق الاقتناء المباشر من أصحاب المجموعات المتباعدين ليحفظ في المتحف ثروة لا تقدّر بثمن من أشهر لوحات موروث ماتيس الفني، الذي افتتح بعد فترة عام ١٩٦٣م.
يقع المعرض بين الشهر السادس والتاسع من العام الراهن ٢٠١٨م، أي بين الثالث والعشرين من حزيران/ يونيو ونهاية أيلول/ سبتمبر منه.
*موقع ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة