علوان السلمان
النص الشعري تركيب فني من ألفاظ منتقاة توحي بها لغة الشاعر، التي تكشف عن ذات مبدعة وتجربة شعورية لأنه طاقة فنية تعبّر عن إبداع ثر.. لذا كان ( فاليري) يردد بصدد الشعر (لا يدخل هنا إلا المهندسون) لاعتقاده ان القصيدة لا يمكن ان تنمو نمواً عضوياً حياً إلا إذا كان لدى الشاعر عصب حسي يضبط الصورة ويحددها بما يبقي على وحدتها وانسجامها وتآلفها ..)
والجواهري الانسان ..الشاعر مهندس القصيدة العمودية الحديثة بمضمار حداثوي شكّل في قصائده موقفاً فكرياً من الحياة بقيمة تعبيرية فنية عالية .. فامتلك هوية معاناته الفكرية ممزوجة بمعاناته الفنية المتمثلة بالتقنية الاسلوبية التي تتشكل عليها مستويات التجربة الجواهرية..عبر مراحلها التاريخية ..اذ كانت مراحلها الاولى تعتمد المحاكاة والمماثلة بشعراء يستعير حناجرهم كالمتنبي والبحتري وابو تمام والمعري والشريف الرضي … مستقياً منهم اخيلتهم وتجاربهم فكان تشكيل الصورة عنده يعتمد خزينه التراثي الشعري .. حتى مرحلة النضج ..فكان متميزاً.. مجدداً.. مبدعاً.. فامتلك خصوصيته و شعره خصائصه الجواهرية المتمثلة في نزعته الحسية في التشخيص والتصوير الموازية لنزعة التجريد التي ماانفكت تهرب بخياله وذهنه صوب دائرة الايهام والوهم ..اذ تضيق اللغة بمدلولاتها ومضامينها المتعارف عليها لتكتسب ابعاداً فيها من قوة الايحاء ..ففي قصيدته ( اخي جعفر) يتكافأ فيها التعبير والتفكير فتصبح الصورة بابعادها الزمكانية فكرة والفكرة بتجريدها الذهني صورة .. ويتداخل فيها المنطق والتشكيل ليرسم لنا صورة النضال وحركة الاجيال ..
ارى افق بنــجيع الدمـــــاء
تنور واختفت الانجـــــــــــــم
وحبلا من الارض يرقى به
كما قذف الصاعد السلـــــــــم
اذا مــد كـــفا لــه ناكــــــث
تصــدى ليقطعــــها مــــبـــرم
تكـــــور من جـــثث حـولـه
ضخام وامجادها اضـــــخــــم
وكفا تمـد وراء الحــــجاب
فترسم في الافق ما ترســــــم
وجيلا يروح وجيلا يجـيء
ونارا ازاءهـــــما تــــــــضرم
فالقصيدة الجواهرية وحدة واحدة متداخلة الوحدات على صعيد المضمون والشكل الفني .. اذ انها واحدة في رؤياها وموقفها من الوجود ..بالرغم من تعدد الصور الناسجة لابعادها العضوية المتضمنة دفق بناء البيت الشعري ومضمونه .. حتى انه بحديثه عن الطبيعة وسر جمالها حديث بصيغة الاسقاط المتبادل بينها والانسان قيمة وغاية .. فهو يغنيها بمنطق الانبهار والاندهاش عندما ينقلها الى متلقيها حساً وانفعالا متحققين على صعيد الادراك .. فتكون الطبيعة عنده حياة ورؤية ورؤيا وموقفاً ..
حييت سفحك عن بعــــد فحييـني
يادجلة الخير ياام البســاتيــــن
حييت سفحك ظمآنا الوذ بـــــــه
لوذ الحمائم بين الماء والــطين
يادجلة الخير:ادري بالذي طفحت
به مجاريك من فوق الــــى دون
ادري على أي قيثار قـــد انفجرت
انغامك السمر عن انات محزون
ادري بانك من الف مضت هــدراً
للآن تهزين من حكم السـلاطين
فالنداء في القصيدة هو حركة زمنية تراكمت بتأثير الصور في وجدان الشاعر تراكما كثيفا مترابط الوحدات المتعانقة الافكار بنموها الزمني .. اذ من خلاله تتوافد الصور من القلب وتتراكم فوق بعضها وهو يستدعيها من خلال هذا النداء الموقظ لها.. اما التكرار فيعني التوكيد وازالة الشك .. اضافة الى ذلك فان الجملة الفعلية قد غلبت على العبارة الشعرية الجواهرية حتى ان اغلب قصائده تبتديء بالفعل الذي فاق عدد الاسماء والصفات.. كما في :
قوله في قصيدة الذكرى الاليمة /1924..
اقول وقد شاقتني الريح سحرة
ومن يذكر الاوطان والاهل يشتف
وقوله في قصيدة بريد الغربة /1927 ..
هب النسيم فهبت الاشواق
وهفا اليكم قلبه الخفاق
وقوله في قصيدة ثورة الوجدان /1928 ..
سكت حتى شكتني غر اشعاري
واليوم انطق حراً غير مهذار
وقوله في قصيدة المحرقة /1931 ..
احاول خرقاً في الحياة فما اجرا
وآسف ان امضي ولم ابق لي ذكرا
وقوله في قصيدة لبنان / 1939 ..
ارجعي ما استطعت لي من شبابي
ياسهولا تدثرت بالهضاب
وقوله في قصيدة ستالينغراد / 1943 ..
نضت الروح وهزتها لواء
وكسته واكتست منه الدماء
وقوله في قصيدة ابي العلاء المعري/1924..
قف بالمعرة وامسح خدها التربا
واستوح من طوق الدنيا بما وهبا
وقوله في قصيدة دجلة في الخريف/1946 ..
بكر الخريف فراح يوعده
ان سوف يزبده ويرعده
ففي هذه المطالع نقف على جمل فعلية متداخلة ..متآلفة تعطي صورة الحركة وقد امتدت الى ابيات القصائدة لتشكل الافعال فيها نسبة تفوق الصفات والاسماء ومن ثم بناء الجملة واختيار مفرداتها التي تضفي على القصيدة الصفة النغمية المتباينة تبعا للسياق النفسي والانفعالي وتناسقها مع الاوزان والقوافي بعد ان حشد الشاعر الافكار وفقا لطبيعة التداعي الذي تتكشف فيه اللحظة الشعرية ..
ففي قصيدة( اخي جعفر) يبرز النمط الفعلي وينعكس على القافية واضحاً.. فالقصيدة تقع في ستة وتسعين بيتاً شكل الفعل قوافي سبعة واربعين بيتا كون جسامة الحدث في هذه القصيدة سيطر على الشاعر وجعل انفعالاته تطفح بهذا السيل المتحرك من الافعال للتحريض والثورة على الظلم ..
وفي قصيدته ابو العلاء المعري التي تكونت من واحد وتسعين بيتاً .. كانت قافيتها الفعلية منحصرة في اربعة وعشرين بيتاً..
فالجواهري بامتلاكه ناصية اللغة .. كان صوتاً شعرياً تميز بخصوصية امتلاكه المتلقي بصوره الحية وايقاعاته الفنية ومهاراته في استخدام المفردة .. فكان الرؤية والرؤيا.. الذي يصور ويبدع وهو يتحدث من داخل الانسان فيولد فعلا نامياً وحركة لاتعرف السكون.. تحيط متلقيها وتجعل منه متأملا ذاتياً في صلب العملية الشعرية مشاركاً فاعلا لان صورته تتنقل في اجواء البيت الشعري ومضمون القصيدة ..
ولا يفوتنا ان نذكر ان من المميزات التي ميزت شاعرية الجواهري طول النفس الشعري حتى ان بعض قصائده تمتد الى المئات من الابيات كما في المقصورة التي كتبها عام/ 1947 والتي امتدت الى ثمانية وثلاثين ومئتي بيت قسمها الى ثمانية عشر مقطعاً.. يمثل كل مقطع فيها تجربة شعورية ودلالة فكرية وسياسية واجتماعية ونفسية.. وقد قال عنها الجواهري (انها ستبقى ولو فنيت جميع اشعاري) كونها شكلت سمفونية حياة المتعبين .. اعتمدت التركيب الفني والايحاء في اجواء الوعي والمزاوجة المتوالدة .. فكانت عملا فنياً ناضجاً امتلك شاعرية عالية سواء في الاداء (لغتها الشعرية) ام في دلالتها (صورها الشعرية) مع ترابط منطقي متماسك بين اجزائها فنيا ..
والمقصورة الجواهرية تجسد سلطة مبدعها.. اذ (الانا) المتكلم و (الانت) المخاطب..وقد تميزت بتفردها عن المقصورات التي سبقتها..
كمقصورة ابن دريد المتوفى سنة 321 هجرية والتي بلغت ثلاثة وخمسين ومئتي بيت من الشعر بشرح التبريزي ومطلعها :
ياظبية اشبه شيء بالمها
ترعى الخزامى بين اشجار التقى
ومقصورة المتنبي المتوفى سنة 354 هجرية وقد بلغت ستة وثلاثين بيتا شعريا ومطلعها:
ا لا كل ماشية الخيزلى
فدا كل ماشية الهيدبى
ومقصورة الشريف الرضي المتوفى سنة 406 هجرية والتي بلغت اثنين وستين بيتا شعريا ومطلعها :
كربلا .. مازلت كربا وبلا
مالقى عندك آل المصطفى
ومقصورة الجواهري تبدأ في مقطعها الاول :
برغم الاباء ورغم العلى
ورغم انوف كرام الملا
ورغم القلوب التي تستفيض عطفاً تحــوطك حــوط الحمـــى
بحوار داخلي مع الذات اذ تتحدث (الانا) الجواهرية وتكشف عن مدى الصراع النفسي الذي تعانيه .. فتنفجر صارخة بوجه الحكام الجائرين.. كونه يعيش في اعماق الحدث السياسي والاجتماعي متفاعلا معه داخلياً وخارجياً ..
بماذا يخوفني الارذلــــــــون
ومم تخاف صلال الفــــــلا ؟
ايسلب عنها نعيم الهجـــــــير
ونفح الرمال وبذخ العــــرا؟
بلى ان عندي خوف الشجاع
وطيش الحليم وموت الردى
وتستمر المقصورة الجواهرية معبرة عن واقع مغمس بانفعال صاف وروح وقادة لمعانقة الانسانية.. ثم يعرج بغنائية السلام على الهضاب والشطين والجرف والمنحنى وعلى النخيل وسعفاته الطوال ..
سلام على هضبات العـــــــراق
وشطيه والجرف والمنحنـى
على النخل ذي السعفات الطوال
علـــى سيد الشجر المقتنـــى
ودجلة تمشي على هونــــــــــها
وتمشي رخاء عليها الصـبا
وتنتهي بما يشبه الوداع …
لام على بلد صنته
واياي مــن جفوة او قلى( كره)
كلانا يكابد مر الفراق
على كبدينا ولــذع النـــوى
كل يغـــــــذ الـــــى طــــــية( نية)
لنا عند غايتها ملتقــــــــى
وطول المقطع عند الجواهري يعتمد على المضمون الفكري الذي يتضمنه.. وهذه الطريقة تتيح له فرصة امتداد القول بالاستغراق والاحاطة مما منحه حرية السباحة في علوم اللغة وبلاغتها ومن ثم استنفاد ما لديه من افكار وعواطف متأججة فيوزعها على مقاطع القصيدة.. وهذا النمط لايجيده الا من امتلك ثروة معرفية واسعة في لغة النثر كالجواهري..اذ عمله في الصحافة لمدة تزيد على الثلاثين عاماً اغنت تجربته النثرية بحكم حرصه على ما يكتب والذي كان متسماً بالطابع الادبي اضافة الى خزينه الشعري وثقافته الادبية.. والدليل على ذلك غزارة المضامين التي عكسها شعره والتي فرضت عليه ان يمد القول عند كتابة القصيدة.. اذ وجد الجواهري في طول القصيدة قوة شاعريته وخصب خياله واستحواذه على اداته وقدرته على التصوير ..
لقد اقترن بالمقصورة عدد آخر من قصائد الشاعر طولاً وتقسيماً الى مقاطع منها (تنويمة الجياع) التي تألفت من اثنين ومئة بيت قسمها الشاعر الى عشرة مقاطع و(افروديت) المؤلفة من مئة بيت ومقسمة الى اربعة عشر مقطعا و(يانديمي)المؤلفة من اربعة وعشرين واربعمئة بيتاً ومقسمة الى سبعة ومئة مقطع ..
لقد عبرت قصائدالجواهري عن احداث ارتبطت بحركة التغيير في المجتمع الانساني وكشفت عن قدرة شعرية فريدة تدلل على قوة شاعرية وخصب خيال مع قدرة هائلة على الاستحواذ على الادوات الشعرية وتنويع الافكار وتراكم الصور وتوجيه خزينه اللغوي في مساره للتعبير عن افكاره التي تبث انتقالاتها من فكرة الى فكرة ومن مخاطب الى مخاطب ..