حيدر جمعة العابدي
تمكنت الرواية العراقية ما بعد 2003 من أن تكون مرآة شديدة الوضوح والدقة في انعكاسها على كل ما يدور حولها من تحولات سياسية واجتماعية ونفسية في المكان المعيش (الواقع) فضلا عن قدرتها على كشف وتظهير الأبعاد الفنية والنفسية لصورة المكان والشخصيات التي تنفعل داخله رؤيويًّا عن طريق المتخيل السردي وهو ما شكل حضورها الفاعل والمميز في الأوساط الأدبية والثقافية بل وحتى الشعبية منها.
«لي وطن كلما نام أفزعته الحروب» ص129،
عندما تكون الحياة مجرد صفقة بيد صناع الموت وتجار الدين والسياسة بالتأكيد سنكون نحن الحالمين بالجمال والسلام أول ضحاياها، رواية تنطق وتفضح الكثير من صورة الموت والحياة المختبئة في قلب مدننا العريقة بالحكايات .
تمثل رواية مزامير المدينة في صفحاتها (272) ذات القطع المتوسط والصادرة عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع ،في طبعتها الأولى، لسنة (2018) بنية سردية عميقة في دلالاتها الفنية والثيمية، حيث تتشكّل هذه البنية وفق رؤية فلسفية تحاول الانفتاح على فضاء رمزي مثلوجي من خلال كشفها لذاكرة المكان واضطراراته الاجتماعية وجذوره المثلوجية، كما تحاول في الوقت نفسه عكس هذه مهيمنات الفضاء على وعي الشخصية من خلال تمثلها للمواقف والاحداث والتحولات النفسية التي ترزح تحتها كمهيمنات وجودية ونصية، وهو ما يعكس قصدية المؤلف من اختيار العنوان كعتبة دلالية ورمزية أولى (مزامير المدينة ) يمكن من خلاله تلمس الرغبة في جعل المتن يتشظّى دلاليا ورمزيا في مختلف الاتجاهات أفقيا باتجاه الواقع، وعموديا باتجاه الرمزي، ولولبيا في مختلف الاتجاهات الاخرى النفسية والفنية والاجتماعية لدرجة يصعب معها الامساك بخيوط ثيمتها الرئيسة التي تولد من رحمها العديد من الثيم الجزئية التي تشكل فصول الرواية وجسدها النامي من عناوين الفرعية تنسج تفاصيل نموها القلق. فكل فصل يشكل محورًا منفصلًا من حيث المشهدية والاحداث، لكنه متصل من حيث الدلالة الصورية والرمزية المتخيلة رغم ظاهرية أحداثه الواقعية والتي تبدأ من( للحروب آلهتها والجنود عبيد) وتنتهي (الفكرة الهائمة تبحث عن دليل، وخارج المتن ) .
الرواية هي الجزء الثاني من لروايته الاولى ( الصورة الثالثة ) التي صدرت عن دار فضاءات الاردنية عام 2016 حيث يتم متابعة أحداث الشخصيات وتطورها عبر محمول التغيرات التي حصلت في البنية الاجتماعية العراقية.. حيث تناول الجزء الاول الواقع العراقي وتأثيرات الحرب العراقية فيما كان رواية ( مزامير المدينة ) في مجملها تسعى لأثارة الأسئلة التي تنفض الغبار عن ما يجري خلف الواقع من أحداث جسام ظلت تلازم المشهد العراقي ما بعد ( 2003) وما رافقته من تحديات وتحولات حولت صورة الواقع بكل تجلياته اليومية الى مشهد معقد ومتشابك يصعب تحديده او الامساك بأطرافه اللاعبة والمهيمنة لما تمتلكه هذه الاطراف من قوة شعبية ورصيد رمزي ، وديني مدعوم بأجندات أيديولوجية حزبية ومذهبية، وهو ما يجعل من هذه الاسئلة ذات طابع استفزازي تشكيكي أكثر منه شكليًا تنظيميًّا، ما يسهم في إعادة التساؤل عن جدوى ما يحدث؟ ولماذا يحدث؟ وكيف يتم تصميم ما يحدث، بهذه الوحشية البشرية التي احرقت الجميع دون استثناء، ولكي لا تكون الرواية مجرد أسئلة عائمة بلا إجابات، جاءت الاجابة على لسان شخصياتها التي تشترك في اضطرارات المكان، لكنها تختلف فيما بينها في توصيفه ثقافيا ونفسيا لتعكس وجهات نظر مختلفة لهذه الاجابة، على الرغم من وجود بطل وحيد يقوم بروي الأحداث وتوزيع الادوار على جميع الشركاء، لكنه ظل حياديا بنسبة جيدة اتجاه ما تود قوله شخصيات الرواية أو على مسافة بينه وبين الشخصيات الثانوية بشكل لم يمارس فيه الاقصاء المباشر، وهو ما اتاح إبراز وجهات النظر المختلفة (لا أدري لمن تعزف المزامير ؟ ربما إلى القبور ) ص7 .
المكان
تحاول الرواية عبر ثنائية المكان، الحدث من ايجاد اتساق ثقافي وفني بين المكان بوصفه جغرافيا بيوت، شوارع، مقابر، مقاهٍ، وبين المكان كفضاء يحتضن ثقافات بشرية تتأثر وتؤثر في شكل الجغرافيا مثلوجيا وثقافيا عبر الصراع (ديني/ثقافية) ،وأطماع (اجتماعية/اقتصادية)، وجذور(رمزية/ عرقية) وهو ما يعكس رمزية اختيار الأحداث والاماكن إلتي تنمو فيها لتشكل حبكة وعقدة الرواية، فالمكان (كربلاء) بكل ما تحمل من رمزية دينية وتأريخية ،وثقافية ضاغطة على الجميع بسبب التحديات السياسية والمذهبية التي تحيط بها، ولأحداث هي الحروب والصراعات السياسية.. ومن هذه الاحداث التي ظلت شاخصة في ذهنية العراقي هي أحداث الحرب العراقية الايرانية وتبعاتها التي تجلت بكل أبعادها في شخصية زوج سلوى في رواية ( الصورة الثالثة) التي تعامل معها المؤلف في إطارها الرمزي (صورة) لتشكل وظيفة دلالية عميقة تكشف حجم الدمار والتصدعات النفسية التي عانى منها الشعب العراقي والتي تمثلت في قطع عضوه الذكري الذي يرمز لموت قوة الحياة التي كانت تظهر بكل رونقها في صورته الاولى والثانية قبل الحرب ذات الاوسمة الذهبية التي تناولها المؤلف في الجزء الاول من رواية الصورة الثالثة وانتهت بموته الرمزي لكل اشكال الحياة. أما في رواية (مزامير المدينة) كان لاحتلال العراق في 2003 وتداعياته أثر واضح وعميق على حياة وصورة محسن، حيث تبدأ أحداث الرواية في اختفاء سلوى المفاجئ الذي شكّل لمحسن فعل الصدمة نفسيا وروحيا بعد عودته من الجيش الذي حل بأمر الحاكم العسكري بريمر (وحيدا بلا هواية وقد ضاعت الهمة في متابعة غواية الحروف )ص192. لذا شكلت صدمة جعلته يعيش جحيم الوحدة حيث كانت تمثل له المتنفس والدافع الوحيد للبحث عن آخر صور الحب والجمال بعد ما خلفته الحروب والصراعات السياسية والمذهبية من دمار وخراب ليس فقط على معمارية المكان العراقي الذي أكتظ بصور الموت والخراب، بل حتى على طبيعة الشخصية واللغة المتداولة كخطاب مرسل يحمل رسالة تحذير من خطورة ووحشية القادم، والتي جاءت منسجمة وخيارات بطل الرواية عندما قرّر أن يعمل (دفّانًا) في إحدى المقابر الكبيرة في كربلاء ليوثق كل صور الموتى بعد أن غابت صور الحياة التي كان تمثلها في سلوى الجميلة (لأنك في مقبرة أخرى وفي مدينة أخرى يمكنك الجلوس على علو وترى الموتى كيف يتقاطرون).
الشخصية :
اعتمد المؤلف في معمارية بناء الشخصيات على أبعاد سيكولوجية ورمزية وفكرية مختلفة من حيث الوعي والممارسة، لكنها تتشابه من حيث حجم التصدعات والانكسارات والمصير، الكل تحت سطوة السلاح، ومنها شخصية محسن القاص وسلوى التي كانت تحلم بالحياة السوية في ظل رجل يحبها، ولو تتبعنا ذلك من لحظة تطورها سنجد أن تحول شخصية البطل من مشغل للمولدة في فندق في رواية (الصورة الثالثة) الجزء الأول، الى حفار للقبور في (مزامير المدينة) الجزء الثاني كانت له دلالات عميقة ومؤثرة في طريقة تفاعل هذه الشخصيات ونظرتها للواقع وللأحداث من حولها حيث كانت شخصيات تسلب منها إرادتها يوما بعد يوم في ممارسة أشكال الحياة بفعل مهيمنات الواقع، سواء قبل أو بعد 2003، حتى باتت ميتة من الخارج والداخل، فمحسن يظل يعيش أحلامه في كتابة قصة ترفض النهاية كونها توثق كل الانتهاكات الانسانية تحت رهبة وتهديد الجماعات الارهابية والمذهبية التي اجتاحت العراق بعد 2003، وسلوى تظل ترزح تحت رحمة موت زوجها وخوفها من المجتمع نفسه، لذا تظل هذه الشخصيات تعيش من خلال أحلامها التي هي الأخرى لا تقل بشاعة عن واقعها المزري.. فمع كلّ حلم يصحو محسن على تهديد بالقتل من جماعات كانت بالأمس تتملّق وتعيش في ظل سلطة ما قبل 2003 لتعود اليوم تحت مسميات جديدة ما بعد 2003 تمارس نفس اساليب القتل، لذا ظلت هذه الشخصيات تئن من سطوة المكان المسكون بثقافة الصدام والصراع من أجل السلطة مرة واخرى من أجل المعتقد وهو ما أنعكس على طبيعة الشخصية التي باتت تعاني من ازدواجية مقيتة.. فبين رغبة محسن في تدوين كل صور الموت لتكون شاهدا على حجم الدمار والوجع الذي قطَّع العراق الى مناطق مذهبية وعرقية، نجده مدفوعًا لدرجة الهوس والجنون للبحث عن حبيبته التي تركها لوحدها تواجه مصيرها، هذه الازدواجية التي حاول المؤلف من خلالها أن يسلط عدساته الفنية على الشخصية مستعينا بتقنية تعددية الصوت الذي جاء مرة بصيغة المتكلم من الداخل «منلوجات وهذيانات ،وأحلام « ومرة بصيغ المخاطب «حوارات مباشرة» كما استخدم لغة ذات بنية استعارية ورمزية جميلة تعكس رغبة وقصدية المؤلف في ابراز تداخل المعاني والصور والمشاهد وتشابكها داخل زمن دائري مغلق على عوالم شخوصه التي غالبا ما تعكس عتمة الواقع وفجائعيته (لا تتعجب يا محسن كلانا يتعذب من الحياة ،ولا يقيس عمره بعدد الافراح بل بعدد الميتات التي مرت)ص55.
لتكون صورة مكملة لا تراجيدية المكان التاريخي وجذوره المثلوجية كفضاء مهيمن على حياة الجميع لا شعوريا حتى باتت صور الموت هي التي تعيد التذكير به كمزامير للمدينة (كتبت في الورقة الأخيرة : أنك لم تزل تخاف من السلاح الذي سيعود إلى المدن ) .