حاوره ـ علي جبار عطية:
هو كاتب عاش الوجع العراقي مبكرا وعبر عنه أبلغ تعبير، وكانت المدة الزمنية التي شب فيها مليئة بالصراعات الايديولوجية والسياسية والاجتماعية.. كل هذه الصراعات وغيرها عاشها الكاتب عبد الله صخي وهو يشهد الهجرة الجماعية من الريف إلى المدينة وصراع قيم الريف وقيم المدينة والتحولات الكبرى في الحياة العراقية التي لم تشهد عنفا مثلما شهدته السنوات الخمسون الأخيرة. ولصخي الفضل في إعادة تشييد حياة الناس المنسيين شرق بغداد في ثلاثية (خلف السدة) و(دروب الفقدان) و(اللاجئ العراقي) معبرا أمينا عن معاناة جيل بكل عنفوانه وتطلعاته وآلامه. وهو في منفاه بلندن أجرينا معه هذا الحوار عبر شبكة التواصل الاجتماعي فكان هذا الذي بين أيديكم:
أصدرت مجموعتك القصصية الأولى (حقول دائمة الخضرة) سنة 1980 فلماذا انتظرت كل هذه المدة لتصدر أول رواية لك هي (خلف السدة) سنة 2008 ؟
ـ غادرت العراق أوائل عام 1979، وما إن تجاوزت الحدود حتى دخلت في ضباب المتاهة، وبدأ عالم جديد يتشكل أمامي لم يسمح لي إلا بإصدار تلك القصص العشر التي تمكنت من حملها معي. كانت روحي أثقل من جميع الحقائب ففيها يقيم وطن حرصت كل الحرص على ألا تتصدع جدرانه أو تنحني أشجاره أو تجف جداوله. وسنة إثر أخرى أخذ الوطن يبتعد ورائي ويغيب فيما المنفى يتجدد باستمرار بألوان ولهجات وبلدان مختلفة، وبحث دائم يفقد المرء صوابه بحثا عن عمل واستقرار في بقعة ماء حتى وصلت إلى لندن بشق الأنفس. وذات يوم قادني قدري إلى السكن في بيت مستأجر في إحدى ضواحي المدينة الشاسعة. وفي لحظة حنين نظرت إلى الوراء لأتنبه إلى أنني ضيعت أكثر من ربع قرن في طرقات العالم جوابا منهك القوى من البحث عن استقرار أو عمل أو هوية. لقد أُدركت أن المنفى سوف يسلبني حياتي وربما إنسانيتي لذا عليّ أن أقاومه، لا أريده أن يقوضني. ورحت أمضي الساعات وحيدا أشيّد وطناً خياليا، وطناً لي وحدي بحجم الكف، بحجم القلب، أرسم منازله وأشجاره وأنهاره وأكواخه ومواطنيه حتى نهض أمامي عالم واقعي أعاد الخيالُ بناءَ تواريخه وشخوصه ومصائرها فكانت روايتي الأولى «خلف السدة» التي وجدت فيها رمزا لوطني الضائع. حدث ذلك بعد أكثر من ثلاثين عاما على زوال منطقة (خلف السدة) من الوجود تماما للحد الذي لم يبق أيُ شاهد عليها سوى ضريح السيد حمد الله القائم حتى اليوم.
ثلاثيتك (خلف السدة) و(دروب الفقدان) و(اللاجئ العراقي) تغطي مساحة زمنية من تاريخ العراق المعاصر تمتد من الخمسينيات الى منتصف الثمانينيات ، فهل في النية إكمال هذا المشروع لما بعد هذا التاريخ؟
ـ لا أعتقد أني سوف أضيف جزءا آخر لتلك التجربة التي أحسب أن الثلاثية أكملت دورتها فيها وحولها.
لماذا تفاوت عدد صفحات ثلاثيتك وكانت رواية (دروب الفقدان) ضعف روايتيك الآخريين؟
ـ لا أظن أن من الضروري ألا يتفاوت عدد الصفحات في أي ثلاثية، ففي ثلاثية محمد ديب «الدار الكبيرة» يختلف عدد الصفحات من جزء إلى جزء آخر. وبصراحة لم أفكر بهذا الأمر ولم أخطط له. هكذا رسمت ثلاثيتي طريقها بنفسها تاركة للأحداث تشكيل حجمها. ربما لأنه لم يخطر ببالي منذ البداية أن أجعلها ثلاثية؟ ربما. لكن بخصوص حجم «خلف السدة» أود أن أشير إلى أن إشارات وصلتني من نقاد ومن أصدقاء تؤكد أن بالإمكان مضاعفة حجم هذه الرواية. نعم، صحيح، هذا ممكن لكنه لا يتطابق مع محاولتي تقديم عمل أدبي مكثف لدرجة التخلي عن أي إنشاء أو حشو أو إضافات. وقتها كنت مغرما بجياكوميتي فحاولت أن أنقل رؤيته للمنحوتة الرشيقة المختصرة الإيحائية إلى الأدب. أشاد البعض بالكثافة الأسلوبية للرواية وأخذ عليّ البعض الآخر الاختصار وعدم التوسع. بالطبع أنا احترم كل ما يردني حول كتاباتي لأني أتطور من خلال آراء الآخرين واجتهاداتهم. أما السعة في رواية «دروب الفقدان» فربما مردها إلى أن الرواية تتناول مرحلة اجتماعية وسياسية مختلفة عن مرحلة «خلف السدة» التي هي مرحلة تأسيس قطاع مجتمعي مهاجر يحاول مسرعا تأثيث حياته وبناءها في حين عالجت «دروب الفقدان» المجتمع نفسه في لحظة استقراره وانتشاره وتعدد واجهاته واهتماماته.
حين أصدرت روايتك (اللاجئ العراقي) سنة 2017 كان المتوقع أن تتناول فيها الهجرة الأخرى للعراقي بعد سنة 2003 لكنك لم تتجاوز هجرة الثمانينيات فما السر في ذلك؟
– في رواية «اللاجئ العراقي» واصلت تدوين سيرة الهجرات التي أعرفها أو عشت أطرافا منها، أما تجربة الهجرة التي حدثت بعد عام ٢٠٠٣ فلا أعرف عنها شيئا فأنا بعيد عن العراق كما تعلم. والكاتب يتناول ما يعرفه. الآن لو قُدّر لي أن أكتب عن الهجرة التي تقصدها ربما أفشل في تصويرها فيما ينجح الكاتب الذي عاش أحداثها أو تخيلها بمساعدة من عانى منها. الرواية تتطلب استيعاب مظاهر الحياة التي لا تحصى.
لنأتي الى شخصية (علي سلمان) محور أعمالك فهل فيه شيء من (عبد الله صخي) لا سيما أنه كان يدرس في الجامعة نفسها (المستنصرية) التي درس فيها؟
ـ شخصية (علي سلمان) تمثل جيلي. ربما أخذ مني القليل لكنه أخذ الكثير من الجيل الذي نشأ مع تأسيس الحكم الجمهوري وعاش تجربة الخذلان السياسي التي يعرفها الجميع والتي تركت جروحا عميقة في جسد المجتمع ما يزال يعاني منها حتى اليوم. أعتقد أن كل رواية فيها شيء من سيرة الكاتب. كما قلت قبل قليل الكاتب يتناول ما يعرفه.
القارئ لرواياتك يجد جواً من القتامة يخيم على مجرياتها فلماذا لم تجعل هناك نافذة للآمال؟
ـ أنظر إلى تاريخ العراق السياسي وأعطني أملا كي أكتب عنه، أعطني فرحا كي أعالجه وأنتصر له. لا يوجد. العراق غارق في المأساة والمتاهة منذ الاحتلال العثماني حتى الآن. لقد فطنت قبل نحو خمسين عاما على الأقل ولم أر العراق خلالها إلا وهو يمضي من تجربة تراجيدية إلى أخرى. احتلالات، سجون، صراعات دموية حزبية. أول شيء يفكر به من يمسك السلطة هو تهيئة سكاكينه لذبح الآخر بدلا من التفكير باحترام الرأي المعارض، يختار الهدم بدلا من التفكير بالبناء. تلك هي سيرة العراق كما عرفتها قراءة وتجربة، كيف إذن نكتب عن حياة بلا قتامة، بلا موت؟ هنا استعيد قول ستيفان زفايغ: «ما أن بدأنا نشعر بالحرية كعادة يومية حتى انطلقت من ظلمات الغرائز إرادة غامضة تريد اغتصابها». هذا ما واجهه جيلي بالتحديد، ويواجهه الجيل الحالي.
اعتمدت في سردك على راوٍ واحد هو الراوي العليم وكنت تقتفي مصير كل شخصية فلماذا لم تختر تقنية تعدد الرواة؟
ـ لم أشعر بالحاجة الى تعدد الرواة أو تعدد الأصوات كي أنتج رواية بولوفونية، فالموضوع فرض أسلوبه عليّ من دون التفكيـر باختيـار هـذا الأسلـوب أو ذاك. هكـذا وجدتنـي أروي سيـرة النـاس الذين أعرفهم ببساطة. والحق كنت مغرما بالسرد أكثر من أي شيء آخر لذلك ترى قلة الحوار أو غيابه في الرواية التي اختارت شكلها وبنيتها بنفسها.
بعد ترجمتك لمجموعة هرمان هيسه (أنباء غريبة من كوكب آخر) سنة 1984 ورواية (النهر الفاضل) لنغوجي واثيونغو سنة 1988 لماذا لم تستمر في هذا المنحى؟
ـ الترجمة عمل شاق، يتطلب جهدا استثنائيا. أحيانا يستغرق البحث عن مقابل لجملة واحدة نهارا كاملا. إنها تحتاج الفكر والوقت والموهبة والمعرفة. لاحظ كم هي صعبة هذه الشروط. اعترف أني لست مترجما محترفا لكني غامرت بمجموعة قصص هيرمان هيسه ثم برواية افريقية يومها كنت أعتقد أن رحلة الترجمة ستكون ممتعة وسهلة، غير أن الممارسة العملية أثبتت عكس ذلك تماما. شعرت بحجم المسؤولية الكبير الذي يقع على عاتق المترجم فتوقفت خاصة بعد أن أقمت في بريطانيا عام ١٩٩٠ وإدراكي أنني كلما ازددت معرفة باللغة الإنجليزية اكتشفت جهلي بها. لكن هذا لا يمنعني من العودة إلى الترجمة فهي مغامرة مثل أي حقل من حقول المعرفة.
ما النسبة بين الواقع والمتخيل في شخصيات ثلاثيتك وهل ان الواقع فرض عليك تحديد مصائرهم؟
ـ أغلب الشخصيات واقعية موجودة في الجوار أو أصدقاء عرفتهم أو سمعت عنهم. أغلبهم لهم وجود حقيقي أو ما يشبهه. لكنها دخلت في المختبر الروائي الذي أعاد بناءها على وفق مقتضيات السرد والهدف منه. قبل أن أكتب الجزء الثاني «دروب الفقدان» كنت في زيارة إلى بغداد. وصادف أن جاءت نسوة لتحية الغريب القادم من أرض أجنبية. وبعد فترة انصرفن عني تماما وانشغلن بحياتهن. فتحت كمبيوتري لتفقد الرسائل الشخصية، فسمعت إحداهن تحكي عن فتاة طلقت لأنها رفضت أن تسرق مثلما تريد حماتها. كتبت ما سمعت ثم أعدت بناءه فظهرت شخصية مديحة امرأة ناضجة وليست الطفلة التي كانت في «خلف السدة». للخيال نصيب كبير في رسم الشخصية وأبعادها.
ما أثر الهجرة والغربة على عموم نتاجك الأدبي؟
ـ في البداية أحسست بالضياع، لا أعرف أيا من الطرق أسلك. الأرض التي أقف عليها أخذت تغيب وتكاد تتلاشى فأبدو كمن يمشي في الفراغ. توارت مادتي القصصية (الجيران، المنطقة، الشارع، المدرسة، الطريق) خلف الحدود. هذا الأمر أيضا يتصل بتوقفي عن الكتابة. وقد خشيت على نفسي من ذلك فانغمرت بتأمل التجربة كلها وبالقراءة الكثيفة المتواصلة وبالاطلاع على تجارب كتاب من شتى بقاع العالم يومها حتى أخذت أشيّد وطني الخاص لأعيش فيه وأحلم فيه وأكتب عن مواطنيه. ساعدني في ذلك اتصالي بالكتاب العرب ومتابعة نتاجهم وانشغالاتهم، ثم تركيزي على الأدب الأجنبي وأبرز منتجيه.
هل تعتقد بسيادة الرواية العراقية مع انحسار الأجناس الأدبية الأخرى كالقصة القصيرة والشعر وهل هو اتجاه عالمي أم خاص بالعراق فقط؟
– من حيث الكم نعم، أما من حيث الكيف فلا أعرف تماما لقلة اطلاعي. من الواضح أن الرواية ناهضة بقوة كحقل للتجارب الأدبية لكن هل انحسر الشعر؟ لا أعرف تماما. لكني ألاحظ انتشار الشعر الشعبي بقوة لا تضاهيها الرواية. الأمر يحتاج إلى وقفة نقدية ودراسته من الناحية السوسيولوجية والسياسية.