عمر شبانة
درجَ الناقد صبحي حديدي، منذ عقود من عمله في النقد، على اعتماد المقالة الصحافية، الثقافيّة والسياسيّة، وسيلة للتواصل مع القارئ العربيّ، لكنه رأى خلال الأشهر الأخيرة من العام الماضي ومن هذا العام، أن يُفرج عن بعض «اشتغالاته» النقدية، ويُصدرها في كتب ورقية، فأصدر خلال هذه الأشهر عددًا من الكتب، كان منها «زوال لا يزول: قراءة في شعريّات باقية»، ثم «التعاقد العسير: ألق التجريب وأرق القراءة»، وها هو يطلق كتابه الجديد «إدوارد سعيد الناقد: آداب التابع وثقافات الإمبريالية، مجموعة دراسات»، (وكلّها من إصدارات الدار الأهلية – عمّان 2017 و2018 ). هنا أضواء على الكتاب الأخير.
الكتاب قسمان: قسم أول حمل عنوان «مسارات وأعمال»، ويضم تسع مقالات نقدية، الأولى «مسرد» لحياة سعيد الثقافية، والبقية قراءات في ثمانية من كتبه، بوصفه ناقدًا هنا، وليس المفكر الشهير. وهذا القسم هو أيضًا، وبحسب المؤلف «استعراض بانورامي لأعمال سعيد، وكيف شكّلت خطوط تفكيره النقدي ومنهجياته النظرية». والقسم الثاني «مختارات من كتابات إدوارد سعيد النقدية» من ترجمة المؤلف، وهي عن محمود درويش، تحية كاريوكا، ميشيل فوكو، موريس ميرلو بونتي، بالإضافة إلى ملحقين؛ الأول مقال عن إدوارد سعيد بعنوان «المسافر والمنفى» كتبها أحد أفضل دارسيه وهو ستيفن هاو، والملحق الثاني هو حوار أجراه صبحي حديدي نفسه مع إدوارد سعيد عام 1994.
منذ مقدمة الكتاب، يحدد صبحي حديدي مكان إدوارد سعيد ومكانته في الفكر والنقد والتنظير العالمي، إذ إن إدوارد سعيد (1935 – 2003)، بحسب توصيف حديدي، ينتمى إلى «تلك القلّة من النقاد والمنظّرين والمفكّرين الذين يسهل تحديد قسماتهم الفكرية الكبرى، ومناهجهم وأنظمتهم المعرفية وانشغالاتهم؛ ولكن يصعب على الدوام حصرهم في مدرسة تفكير محددة، أو تصنيفهم وفق مذهب بعينه، ذلك لأنه كان نموذجًا رفيعًا للمثقف الذي يعيش عصره على نحو جدلي، ويُدرج إشكالية الظواهر كبند محوري على جدول أعمال العقل، ويُخضع مَلَكة التفكير لناظم معرفي ومنهجي مركزي هو النقد».
ويستطرد حديدي أن سعيد «كان يساريًا، علمانيًا، أنسنيًا، وحداثيًا؛ ولكنه كتب نقدًا معمقًا بالغ الجرأة ضد يسار أدبي يبتذل الموهبة الإبداعية حين يخضعها للسياسة اليومية أو الطارئة، فينتقصها أو يستزيدها بالقياس إلى ما ليس فيها؛ وكان بين أشجع نقّاد العلمانية الكوزموبوليتية، التي لا تبصر أي عنصر تقدمي في المعتقدات المكوّنة للثقافة والذاكرة الجَمْعية؛ ومارس فضحًا منهجيًا صارمًا وأصيلًا لنزعة إنسيّة مطلقة، تبدأ من مركزية كونية لكي تصبّ في مركزية غربية صرفة، تقصي الآخر أو تهمّشه لصالح ذات أوروبية مؤنسنة على نحو تجريدي مطلق».
الناقد الراديكاليّ
تحت عنوان «مسارات وأعمال: التكوين النقدي والفكر التركيبي»، يتناول حديدي ما يسمّيه عقد التأسيس (1964 – 1975) أو «طَوْر هارفارد» الذي شهد انكباب سعيد على دراسة الآداب الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإغريقية والرومانية. ثم الطور الذي يقود سعيد إلى وقفات متقطعة عند أعمال ليفي ستروس الأخرى، مثل «العرق والتاريخ»، و»النيء والمطبوخ» و»الأنثروبولوجيا البنيوية»، وقفات كانت تنتهي بالمراجعة إلى خلاصات ثاقبة حول «توتاليتارية» المنظومة الإجمالية خلف «الفكر البرّيّ»، ومنهجية ليفي ستروس عمومًا.
وينظر حديدي عميقًا في نقد سعيد الراديكالي للنُظُم الأنثروبولوجية، وتعمّقه في كشف صلاتها مع المشاريع الاستعمارية الأوروبية؛ إذْ قد يبدأ البحث الأنثروبولوجي من النزوع العلمي، لكي يمرّ بعدها باستهواء إكزوتيكي، لكي ينتهي في حاضنة تكريس سلسلة ثنائيات الـ «نحن» والـ «هم» التي يندر أن تفلح في تفادي الانزلاقات العنصرية. وهنا يجد حديدي مما هو جدير بالتذكير، مقال سعيد «تمثيل المستعمَر: محاورو الأنثروبولوجيا» 1989.
ويتوقف حديدي عند محطة جديدة في مسار إدوارد سعيد، محطة قلقة ربّما، حيث في ربيع عام 1975 نشر سعيد مراجعة لكتاب هارولد بلوم «خريطة القراءة العاثرة»، المراجعة التي جاءت تحت عنوان «الشاعر في إهاب أوديب»، وتناولت موقع المؤلف في الثقافة الغربية، كما استأنست بكتاب بلوم الأشهر «هاجس التأثير» 1973، حين كان سعيد في الأربعين من عمره، يعيش اعتمالًا نظريًا عارمًا سوف يسفر عن صدور كتابه «بدايات: القصد والمنهج» 1975، كتابه النقدي الأهمّ، فهو «عمل يحتلّ موقعًا وسيطًا «قلقًا»- إذا جاز التعبير – بين كتابيه «جوزيف كونراد..» و»الاستشراق»، بحسب وصف حديدي أيضًا. أي «بين انخراط سعيد في دراسة إشكالية الإمبريالية والذات والآخر، من خلال الخطاب الروائي عمومًا وأعمال كونراد بصفة خاصة؛ ودراسة الإشكالية ذاتها ولكن عبر سلطة الخطاب وخطاب الاستشراق، هذه المرّة».
هكذا يستمر حديدي في «سرد» محطات من مسيرة سعيد العلمية والثقافية عمومًا، ونتاجه الفكريّ الغزير والمعمّق والمتميّز، والمفكّرين الذين حاورهم في كتاباته، أو تأثّر بهم.. وذلك كله ضمن ما يسمّيه حديدي «مسار التفكير الانشقاقيّ» عمومًا، والمسار «الوفيّ أبدًا لحقيقة ما يجري في التاريخ، وعلى الأرض، وفي السطوح الأعمّ من المخيّلة: القضية الفلسطينية». على الرغم من أن «مكانة سعيد لم تنهض، في أيّ يوم، على استثمار حكايته الشخصية؛ ونهضت، في المقابل، على استثمار عبقريّ ذكيّ، دؤوب ومبدئيّ، لكلّ ما في القضية الفلسطينية من أبعاد إنسانية وتاريخية وثقافية وجيو/ سياسية». وصولًا إلى خلاصة مهمة هي أن إدوارد سعيد، بالنسبة إلى حديدي سوف «يظلّ نموذجًا صالحًا وقدوة سارية المفعول، في نقد الاستشراق، كما في تسليح عشرات المناهج البحثية والدراسية، التاريخية والأنثروبولوجية والسوسيولوجية والسياسية، قبل تلك الأدبية والنقدية والثقافية».
تأتي قراءات حديدي لكتب إدوارد سعيد، لتكشف عن المنهج والنظرية والسجالات التي خاضها سعيد هنا وهناك. أما الكتب التي يقدّم قراءة فيها فهي «جوزيف كونراد وقَصَص السيرة الذاتية» وتحمل القراءة عنوان «حسّ الاغتراب وانخلاع الذات»، وفيها يتناول حديدي قراءة سعيد في رسائل كونراد (ثمانية مجلدات)، ثم قراءة في كتب أخرى، حيث يكتب تحت عنوان «عمارات المعنى وأنظمة التشتيت»، وذلك في تناوله لكتاب سعيد «بدايات: القصد والمنهج»، الذي يقول عنه إنه قد يكون هو «العمل الأفضل من سعيد، بوصفه الناقد والمنظّر الأدبي الذي أحدث أكثر من ضجّة عارمة واحدة في صفّ النظرية الأدبية، وعلم الجمال إجمالًا؛ ثمّ، على نحو أخصّ، في النظريات التفصيلية الخاصّة بالرواية، وعلم السرد، والمحدِّدات الاجتماعية والسيكولوجية والأنثروبولوجية وراء مفهوم العمل الأدبي، وما إلى ذلك. وتحت عنوان «النقد العلماني في مواجهة النقد الديني» يقدم حديدي قراءته في كتاب سعيد «العالم، النصّ، والناقد»، وفي فصل رابع تحت عنوان «التابع وتواريخه»، يقدم قراءة في كتاب سعيد «بعد السماء الأخيرة: حيوات فلسطينية»، أما الكتاب الخامس «متتاليات موسيقية» فتأتي قراءته تحت عنوان «السياسة والمجتمع في فنّ النخبة»، فيما يكتب بعنوان «القراءة الطباقية ورواية الهيمنة» عن كتاب «الثقافة والإمبريالية» الشهير، وعن كتاب «تمثيلات المثقف» يكتب بعنوان «واجب الانشقاق»، ثم يكتب حديدي أخيرًا مفاهيم ومراجعات حول كتاب «تأملات حول المنفى».
ابنُ المنفى والحرية
أتوقّف أخيرًا مع جانب مهم من الحوار الذي أجراه حديدي مع سعيد، وتضمنه هذا الكتاب، وهو حوار شديد الثراء، حدّ عدم القدرة على الإحاطة بمحاوره ومضامينه، لذا أختار منه الجانب المتعلّق بحديث إدوارد سعيد عن تجربته مع المنفى، وما يعنيه له، وهو الجانب الذي أثاره صبحي حديدي قبل أن يكون إدوارد سعيد قد توقف عنده مطوّلًا في كتابه «خارج المكان»، وهو الكتاب الذي يشير إليه في هذا الحوار بوصفه كتابًا قيد «التأليف»، وإن لم يشِر إلى اسم الكتاب.
علاقة إدوارد سعيد بما يسمّى «المنفى» تبدأ من شعوره بالنفي داخل اسمه «الملتبس»، أي من هذه التركيبة «إدوارد» و»سعيد»، كما يقول، لكنه فضلًا عن «غربة» الاسم، يضيف البيئة التي نشأ فيها «العائلة التي نشأت في كنفها كانت مزيجًا عجيبًا من العناصر العربية والمسيحية والإنكليزية، نظرًا إلى أن والدي خدم في الجيش الأميركي خلال الحرب العالمية الأولى، واكتسب الجنسية الأميركية، قبل أن يعود إلى فلسطين. كنّا نعيش بطريقة غريبة للغاية، وأنا الآن أكتب مذكّراتي عن تلك السنوات الأولى».
ثم يتحدّث عن تركيبته هو النفسية «على الدوام كنت أشعر بنفسي منفيًّا في الداخل وفي الخارج على حدّ سواء. لم يسبق لي أن كنت في الموضع الذي ينبغي أن أكون فيه. توجّب عليّ أن أكتشف ما هو في الباطن من إدوارد، الشخص الآخر القادر على الانبثاق من إدوارد واحتلال موقعه على نحو أكثر يُسْرًا مما فعلت أنا».
وحول مقولة له قال فيها «أعتقد أنني شعبان في واحد. أشعر أحيانًا أن لا مقام لي في أية ثقافة»، وإن كان ما يزال يعتقد بهذه المقولة؟ وماذا يعني المنفى بالنسبة إليه؟ يردّ سعيد «الحقّ أنني لم أعد أشعر أنني شعبان منفصلان في واحد، بل أربعة أو خمسة ربما! كان الجواب هو حالة التعدد في الاهتمامات ودونما نظر إلى محاولة مصالحة بعضها مع البعض الآخر. لقد توقفت عن محاولة القيام بذلك، وإنني أكتفي بالافتراض القائل إنني، وأي شخص آخر، هوية متناقضة وتعددية. أنا في الواقع لا أفكر كثيرًا بنفسي كمقدار كمّي ثابت، بسبب مرضي جزئيًا. ومن دون أن أتوقف حول سؤال من أنا، أشعر بعديد من الأشياء التي أرغب في القيام بها، والعديد من الأشياء الأخرى التي لا أرغب في القيام بها. وهكذا حدّدت خياراتي، وتلك التي أستطيع القيام بها أتابعها، وأنا أدرك أنني أكثر من شخص واحد، أو أنني على الأقل لست هوية أحادية وثابتة ومتجانسة. وبالنسبة إليّ، شرط النفي يعني الحرية في اقتفاء هذه الخيارات من دون أن أعبأ بالمكان. لقد زرت فلسطين مرتين، في عام 1992 و1993، ويوجد الآن حكم ذاتي ضئيل لا يعنيني، ولست راغبًا في العودة إلى وطني كلاجئ».
أخيرًا، وحَول علاقته بالعالم العربي وقضاياه وهمومه التي شغلت حيزًا كبيرًا في اشتغالاته، فهو يبدو حاسمًا «تجاوزت اهتماماتي العالم العربي، وأشعر أنّ الأمر حرّرني أيضًا. ومع ذلك فإنني مخلوقُ الدرب الذي سرت عليه، مخلوقُ تاريخي أنا، واللغات والثقافات التي اشتَقَقت نفسي منها. ولكنها لم تعد بالنسبة إليّ العلّة الرئيسية لوجودي. إنها جزء من هذه الصورة الشاسعة التي أسمّيها المنفى، الذي بات عندي حقلًا كريمًا، بعض الشيء، في منح الفرصة».