من التعريفات الكلاسيكية المشهورة عن الدولة أنها (جهاز العنف الشرعي والوحيد)، وعندما نقتفي سير تطور هذا الجهاز (الدولة) وعلاقته بالعنف والسلاح، نجده مشواراً ملتبساً ومرتبكاً، إذ لم تنجح الدولة الحديثة ومشروعها في العراق بتحقيق هذا الشرط الأساس لوجودها وفرض هيبتها، ليس هذا وحسب، بل تمكنت عصابات العنف المنظم، والخارجة على القانون، من فرض هيمنتها المطلقة على الدولة نفسها، ولأكثر من أربعة عقود (1963-2003) كما حصل مع البعث وذروة تجربته التي استأصلها المشرط الخارجي ربيع العام 2003، أي “جمهورية الخوف”. بكل تأكيد هناك حزمة من الشروط الموضوعية والذاتية التي وقفت، وما زالت خلف كل ذلك الإخفاق الذي رافق تجربة بناء الدولة الحديثة والقادرة على فرض القانون وهيبة مؤسساتها القضائية والدستورية. ويمكن التعرف على ذلك في نوع التركة والأنقاض، التي خلفتها أربعة عقود من الهيمنة المطلقة للنظام المباد، وفواتير حروبه وحرائقه المشتعلة الى يومنا هذا، وقد مثلت عصابات داعش واحتلالها لأكثر من ثلث الأراضي العراقية؛ ذروة ذلك الانفلات للعنف والسلاح خارج الدولة وقوانينها، لكن بعد نهاية ذلك الكابوس، ونجاح القوات المسلحة والأجهزة الأمنية من استرداد شيء من هيبتها ومكانتها، ونجاح العراق في كسب ثقة المجتمع الدولي، نكون أمام فرصة لا تقدر بثمن لاستئناف مشروع بناء الدولة الحديثة وحصر السلاح بيدها، لا سيما وأننا أمام تحديات ما يعرف بمرحلة البناء وإعادة الإعمار، والتي تتنافر شروطها ومتطلباتها، ومظاهر العسكرة المنفلتة والمتسللة لكل تفصيلات حياتنا.
إننا اليوم أمام مهمة مواجهة كل أشكال هذا الطاعون (العسكرة) المتفشي لا خارج الدولة ومؤسساتها المتخصصة (العسكرية والأمنية) وحسب، بل داخل الدولة أيضاً، والتي تورمت بشكل غير طبيعي ولاسيما بعد ظهور عصابات داعش واحتلالها للموصل وعدد من المدن العراقية حزيران من العام 2014. لقد عانينا كعراقيين من هذا الوباء، بشكل لا مثيل له، وآن الأوان للتصدي الجاد والمسؤول له ولآثاره المدمرة على حاضر ومستقبل البلد. قد تبدو مثل هذه الدعوات؛ طوباوية وبعيدة عن الواقع، مع النتائج التي تمخضت عنها آخر انتخابات تشريعية في البلد، حيث تصدر نتائجها الائتلافات المدججة بالفصائل والسرايا المسلحة (سائرون والفتح)، لكن تلك المعطيات تؤكد على ضرورة حسم مثل هذا الملف الخطير على حاضر ومستقبل مشروع الدولة العراقية بعد التغيير. البعض يقول إن تشكيل هذين الائتلافين للكتلة الأكبر سيساعد على تحقيق مبدأ حصر السلاح بيد الدولة، لكن التجارب والواقع يشيران الى غير ذلك تماماً، ولنا بالتجربة اللبنانية مثالاً واضحاً على النتائج التي تتمخض عن تلقف الكتل ذات الأجنحة المسلحة لمقاليد أمور الدولة ومؤسساتها الحيوية، كما أن ادعاءات نزع هذه الفصائل لاسلحتها وحل تشكيلاتها طوال أكثر من 15 عاماً على “التغيير”، قد أكدت غير ذلك تماماً. كما أن الإصرار على اقتفاء أثر الصيغة اللبنانية ونظامها السياسي القائم على أساس المحاصصة الدينية والطائفية، يعني الحكم على ما تبقى من العراق بالانحدار صوب المجهول والمزيد من التشرذم والضياع. لم يعد لدينا المزيد من الوقت والفرص والثروات، كي نبددها مع هذا الوباء الذي فتك بأفضل وأجمل ما لدينا من خصائص ومواهب وتطلعات، ويزيد الوضع سوءا، أن المرحلة المقبلة ستحمل معها تحديات مصيرية في مجال النفط والمياه وما يرافقها من مخاطر جسيمة، لن ننجو منها من دون تمكننا من إيجاد حلول جذرية وحاسمة لطاعون الأسلحة والمهوسون بالبنادق وعتمة الثكنات..
جمال جصاني