محمد زكي ابراهيم
اعتدنا في كل مناسبة أن نرجع أسباب التقدم المادي الذي أحرزته البشرية في حقبة ما إلى كتاب أو مجموعة كتب، بسبب ما تحويه من أفكار ونظريات، وما تشيعه من قيم ومفاهيم، حول هذا الموضوع أو ذاك.
ومن اليسير معرفة هذه المؤلفات لكثرة المنوهين عنها، أو المحتفين بها. فعدا عن الكتب السماوية التي خلقت جمهوراً واسعاً من المؤمنين، فإن هناك العديد من كتب الفلسفة والأدب والعلم التي وضعت منذ قرون طويلة، ومازالت حتى هذه اللحظة تحظى بالاهتمام. فليس ثمة من يستطيع أن يتجاهل حق «جمهورية» أفلاطون، أو «منطق» و «طبيعة» أرسطو ، أو «إلياذة» هوميروس مثلاً. ولا يستطيع كائن ما في العصر الحديث أن ينكر دور «ثروة الأمم» لآدم سمث، أو «رأس المال» لكارل ماركس، أو «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو، أو «أصل الأنواع» لشارلز دارون. وسواها كثير.
بل إن هناك كتباً أسهمت في تدمير البشرية، ومقتل الملايين من أبنائها، مثل «كفاحي» لهتلر الذي أشعل لهيب الحرب العالمية الثانية.
ولدينا نحن في العراق وبعض دول الجوار، العديد من الأسر التي تبنت أسماء الكتب التي أنتجتها، وتخلت عن اسمها الأصلي، اعتزازاً بفضل هذه الكتب عليها.
بيد أنني وجدت أن بعض الإنجازات الحضارية الكبرى التي شهدتها بلدان ما، جاءت في الأصل نتيجة هواية من الهوايات أو نزوة من النزوات، ولم يكن المواطنون سعداء بها لأول وهلة لأنهم دفعوا كلفتها من مالهم الخاص!
وقد قرأت مثلاً أن السلطان العثماني عبد المجيد كان مولعاً بالصيد على ساحل بحر مرمرة في مدينة أزمير، إلا أن ما كان ينغص عليه الاستمتاع بهذه الهواية وعورة الطريق، وصعوبة المواصلات. فاستقدم لهذا الغرض مهندساً ألمانياً عام 1871، فأشار عليه ببناء خط سكة حديد بين أزمير واستانبول.
وهكذا جرى تنفيذ هذا المشروع من أموال دافعي الضرائب. ولكنه كان أول خط سكة حديد في عموم امبراطورية آل عثمان. ولم يلبث السكان الساخطون أن شعروا بفائدته العظيمة عليهم، وأهميته لمدنهم وقراهم. ثم تحول في ما بعد إلى نواة للعديد من الخطوط المهمة في عهد السلطان عبد الحميد، شقيق عبد المجيد آنف الذكر، في ما يشبه الثورة. وكان آخر هذه الخطوط هو الذي يصل العاصمة بالبصرة!
علينا أن لا نستهين بالهوايات التي يغرم بها بعض رؤسائنا، مهما كانت تافهة. فقد تتحول في لحظة إلهام حقيقي إلى نهضة حضارية كبرى!
ولكن هذا لا يعني أن نهمل الكتب التي وضعها أصحابها بعد عناء شديد، وتكبدوا في طبعها أعظم النفقات، مثلما يحدث اليوم بكل أسف. فقد يظهر منها نفع كبير، ولو بعد قرون. لأن مسؤولية الحفاظ على ذخائر التراث، تبدأ في زمن المؤلف، ولا تنتهي أبداً !