علي إبراهـيم الدليمي
أستذكرت الحركة التشكيلية في العراق، رحيل الفنان الكبير، الفنان الكبير محمد مهر الدين، (23/4/2015) في إحدى مستشفيات عمان، بعدما هجر الوطن سنة 2006، بسبب الوضع المتدهور في العراق الذي جلبه الإحتلال الامريكي من سنة 2003.
ويعد الفنان محمد مهر الدين، إحد أهم القامات الشامخات في المشهد التشكيلي العراقي والعربي والعالمي، وهو أحد أقطاب الأمثلة الواضحة والرصينة، لمعاصرة الفن التشكيلي الحديث في العراق.. فمنذ أن وقع مع زملائه الخمسة المؤسسين لبيان (الرؤية الجديدة) عام 1969، والفنان محمد مهر الدين، متمسك بتأصيل وتأثيث ملامح صورة تجربته الفنية الشخصية في مفهوم إستلهام وطرح نصوص أفكاره التشكيلية، على سطوح منجزه الفني المتباين، لا سيما وأن مبادئ أو أهداف البيان تنص على الإستفادة من تجارب البلدان، التي درسوا فيها، فضلاً عن إستلهامهم التراث العربي، وبلورته برؤية معاصرة، وبأسلوب خاص.. وبما أن مهر الدين قد درس الرسم والكرافيك في أكاديمية الفنون الجميلة في وارشو (ماجستير سنة 1966)، فقد كان لزاماً عليه أن يستجيب ويتفاعل لدعوة البيان.
فبعد عودته إلى العراق من الدراسة في بولونيا، أستمد صياغة تجربته الجديدة من بعض تأثيرات أساتذته البولونيين، ولعل من أبرزهم: سامبورسكي، ولينشتاين، وكويزدي، حيث أستفزوا أحاسيسه، وكان هذا الأثر واضحاً جداً في معرضه الثاني في بغداد، سنة 1976، ومنذ ذلك الوقت، كان يبحث ويجري عدة صياغات فنية متجددة في هوية إسلوبه، وفي فهم وهضم الفن المعاصر.
لقد جمع مهر الدين، سمات وعناصر التراث المحلي، ومصير الإنسان المجهول، مع معاصرة الفن البولوني، الذي كان أثره شاخصاً في بداية تجربته، وفي هذه المعادلة (القلقة) منح مهر الدين، بحذر شديد أعماله مسحة شخصية تتوازن مع رؤيته وطروحاته التي تحمل قيمة ( فنية وإنسانية) معاصرة، مثلما كان لها صوتها وصورتها، في المشهد التشكيلي المحلي، أو العربي فيما بعد.. رغم أنها قد أتخذت صيغ تكنيكية عديدة، في ملمس وصور منجزه الإبداعي، إلا أن موضوعها الأساس هو (الإنسان) وعالمه الغريب، المتناقض، والمرير حد الحنظل!.، فقد كان الجو العام والمحيط الإجتماعي، والسياسي، المزدحم بالتناقضات الحيوية، الذي ولد فيه مهر الدين، وخصوصاً في مدينته، البصرة (مواليد 1938) وترعرعه، أثره العميق الذي أنعكس على مجمل باكورة أعماله التعبيرية الأولى، إذ بدأ رساماً تشخيصياً، يتمتع بقوة التخطيط، لا سيما وأنه قد درس الرسم الأكاديمي على يد الأستاذ فائق حسن، كما درس فن النحت، على يد النحات جواد سليم، خلال مدة دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد (تخرج سنة 1958)، وكان رسم (الإنسان) كرمز موضوعي، بكامل أعضائه البشرية، وصفاته، محوراً أساسياً يبني عليه مفردات لوحاته.
وأتسمت تلك الأعمال بالمسحة (الفيكورونيفية = الأكاديمية المعاصرة) مستخدماً فن الكولاج، من المواد الأولية المختلفة، التي تخدم رؤيته، كالرمل والجبس ونشارة الخشب وقطع الحديد الصغيرة.. فضلاً عن مادتي الزيت والأكرليك.. مما يعطي نبضاً حسياً خاصاً لملمس ورؤية اللوحة نفسها.
بعد ذلك، أخذ مهر الدين، يركز إهتمامه برسم أجزاء معينة من أعضاء جسم الإنسان وبحركات متنوعة، مقسماً سطح اللوحة إلى أجزاء عديدة، وكل جزء يضم مفردة مستقلة برمزيتها ومضمونها، لكنها تلتقي أخيراً في صلب وثيمة موضوع اللوحة نفسها.. بعدما يضفي عليها روحية العامل النفسي المؤثر، مستفيداً من إمكانياته وسيطرته، في تقنية التخطيط (بالأسود والأبيض) أو بأقلام ملونة، مع إستخدامه كذلك، كولاج، من صور فوتوغرافية، وقصاصات صحف.. إلخ، مقتربة إلى حد ما إلى لغة تصميم البوستر السياسي، مادامت السياسة هي التي تسيطر على الإنسان وأعضائه وأفكاره، وحتى التفنن في طريقة قتل الإنسان ونفيه.
وفي هذه الهيمنة السياسية والصراع الإنساني، حتى في داخله، ولحظات الذعر والخوف عند مشاهدة أو سماع المأساة.. تتولد عناصر الإحتجاج الكثيفة، مثلما تتفاعل عوامل الإبداع في الإستلهام والتقديم.
وفي هذه الصيغ الفنية التي أشتغل عليها مهر الدين، كان هذا الإتجاه بمثابة تمرده على القانون السائد والمألوف في منجز التصوير الفني، الذي قدمه في معرضه الشخصي الثالث سنة 1978، تحت عنوان (غريب هذا العالم) هذا المعرض الي يعد الإنعطافة الحادة والمهمة، في مسيرة الفنان محمد مهر الدين، وتأسيس رسم هوية إبداعه المعاصر.
يستدرك الفنان والناقد شاكر حسن آل سعيد: ولمحمد مهر الدين في كل ذلك، وسائله الخاصة التكوينية والمضمونية والشكلية معاَ، إذ ليس هناك موضوع يتسرب اليأس إلى نفوسنا في إدراكها وإدراك تطورها المصيري فهو من ناحية ما يؤمن بوحدة الكائن البشري المفضل، إذ قلما رسم موضوعاً لم يطرح فيه قضية الإنسان، بلحمه ودمه، وهو في ذروة موقفه النضالي، إن هذا الرجل الذي يبدو لنا مهمشاً وهو يلتصق بملمس اللوحة التصويرية، لايمكن أن يكون إلا متماسكاً مهماً، هرسته الطبيعة أو قوى البطش والتعسف في نظمها.
وتتعمق رؤية مهر الدين، بعدئذ بسطح لوحته ذات الهم الإنساني الصارخ، مثلما يتعمق ويترسخ نهجه الفني الشفاف، من خلال النظريات والمفاهيم الرياضية والهندسية، وقد فرضت الإشارات التجريدية لغتها الرمزية المختزلة، هنا وهناك، أرقام حسابية وعلامات وأسهم وكتابات مجهولة، و.. و..، وكان الفراغ أو فضاء اللوحة يتسع لكل هذا الكم الهائل من هذه (الطلاسم) المعاصرة، أمام إنسان مازال يبحث عن لقمة عيش أو فسحة من الأمل المفقود أو حتى من يتعاطف معه.
في سنة 2014، أقام مهر الدين، معرضا شخصياً في قاعة الاورفلي في عمان تحت بعنوان (حرب قذرة) ضم 40 مشهداً إحتجاجياً لما خلفه الإحتلال الامريكي في العراق.
محطات مهمة في مسيرة مهر الدين:
– سنة 1982، منح جائزة شرف في معرض بغداد العالمي للملصقات.
– سنة 1986، حصل على الجائزة الفضة للرسم في بينالة أنقرة الدولي الأول.
– سنة 1988، حصل على الجائزة الذهبية للرسم في مهرجان بغداد العالمي الثاني للفن التشكيلي.
– سنة 1993، حصل على ميدالية شرف مع شهادة تقديرية في بينالة بنغلادش الآسيوي السادس.
– سنة 1998، منح الجائزة الوطنية لإبداع في بغداد.
– سنة 2011، صدر عن تجربة الفنان محمد مهر الدين كتابان، الأول نقدي حمل عنوان «آراء حول تجربة الفنان محمد مهر الدين التشكيلية» من عام 1967 إلى عام 2010، والثاني بعنوان «انشغالات محمد مهر الدين» من عام 1957 إلى عام 2011، وضم صوراً لـ 200 لوحة من أعماله الفنية.