جيمس جيفري
بعد القضاء شبه الكامل على تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق وفي «منطقة» [الوجود] الأميركي شمال شرق سوريا، وعقب دعوة الرئيس دونالد ترامب مؤخراً إلى الانسحاب من سوريا، حث المسؤولون في الإدارة الأميركية والمثقفون والزعماء الأجانب جميعهم الرئيس ترامب على إبقاء القوات الأميركية في سوريا. وكمبرر لذلك، غالباً ما يستشهد هؤلاء المسؤولون – بمن فيهم وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس – بالآثار الوخيمة لانسحاب القوات الاميركية من العراق عام 2011، من بينها انهيار النظام السياسي العراقي واكتساح تنظيم «الدولة الإسلامية» مناطق العرب السنّة عام 2014.
ولكن حتى عندما تكون مثل هذه المقارنات صحيحة، يجب وضعها ضمن سياق معيّن. ففي عام 2008، اتفق الرئيس بوش مع العراق على سحب القوات الاميركية بحلول كانون الأول/ديسمبر 2011. لكن الرئيس أوباما سعى بعد ذلك إلى وجودٍ تدريبي واستشاري إضافي لخمسة آلاف جندي بعد عام 2011، وليس لبعثات قتالية، بل لوجود يخدم بشكل جزئي الدوافع السياسية مع العراق والدول الإقليمية. وتُمثل «بعثات الوجود» من هذا القبيل أدوات سياسية شائعة، حتى إن لم تكن موجّهةً أساساً نحو القتال. فعلى سبيل المثال، الوجود البحري الاميركي في الخليج والكتيبة الاميركية في سيناء. لكن في النهاية، رفض البرلمان العراقي منح الحصانات القانونية للجنود الاميركيين، وكان يجب سحب القوات وفقاً لاتفاق عام 2008. وبعدها انهار العراق.
عند تشبيه العراق بـ»سوريا اليوم»، تجدر الإشارة إلى أن الوجود الاميركي في العراق بعد عام 2011 لم يكن ليَترِك، كما تصوّر البعض، الأثر ذاته في الحوكمة والأمن الداخليين في العراق كذلك الذي تركه ما يزيد عن100,000 جندي أميركي في الفترة 2003-2009. فبعد عام 2011، أصبح الجنود الاميركيين ضيوفاً في دولة ذات سيادة دون أي دور قتالي - وبالرغم من عددهم القليل، إلّا أنه كان بإمكانهم المساعدة في التعامل مع بروز تنظيم «الدولة الإسلامية» من خلال إظهارهم التزام الولايات المتحدة، وهو أمر مهم للعديد من العراقيين، ومن بينهم رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي، الذين يشعرون بالارتياب من عودة البعثيين العرب السنّة. علاوةً على ذلك، عندما تكون القوات الاميركية «في خطر» فبإمكانها إثارة اهتمام واشنطن أكثر من أي سفير.
وأخيراً، إن أي تواجد للولايات المتحدة يغيّر حسابات الجهات الفاعلة الأخرى، العدوّة والصديقة منها على السواء. ولو كانت بغداد قد قبلت بتواجد صغير للقوات الاميركية، لكانت الدول العربية الأخرى أكثر ترحيباً بالعراق خوفاً من ضعفه أمام إيران . وحتى أن تنظيم «الدولة الإسلامية» ربما كان قد اختار شن هجوم أكثر حذراً على العراق في عام 2014. (وهنا يجدر بالذكر أن حفنة من الجنود الاميركيين كانت قد ساعدت في منع مليون جندي من «حلف وارسو» من اجتياح برلين، بينما كان انسحاب بعثة تدريب عسكرية أميركية من كوريا الجنوبية عام 1949 قد فتح الباب أمام كوريا الشمالية لغزو كوريا الجنوبية.) لكن بينما يوفّر هذا «الوجود» بحد ذاته بعض البطاقات السياسية المجرّدة مثل الالتزام والتركيز، إلّا أنّ أي وجود عسكري أميركي في شمال شرق سوريا أو أي تغطية جوية فوق تلك المنطقة بعد هزيمة نهائية لتنظيم «الدولة الإسلامية»، يجب أن يكون له مهامّ عسكرية وسياسية محددة للاضطلاع بدور فعلي. ويتمتع هذا الأمر بأهمية مضاعفة لأنه على عكس العراق حيث تحاول الولايات المتحدة الآن الحفاظ مجدداً على بقايا وجود عسكري لها، لن يقوم نظام الأسد أبداً بـ «دعوة» الولايات المتحدة للبقاء على الأراضي السورية. لذا فإن إزالة بقايا تنظيم «الدولة الإسلامية» وضمان عدم عودته بتاتاً إلى شمال شرق سوريا يمكن أن تبقى المهمة «الرسمية» (التي تساعد على تجنب معارضة الأسد وتفي بتفويض «مكافحة الإرهاب» الصادر من قبل الكونغرس). إلّا أنّ هذه المهمة لا تكشف شيئاً عن هدفها الأكبر الذي تمت مناقشته على ما يبدو في اجتماعات الرئيس ترامب مع نظيره الفرنسي ماكرون، وهو الضغط على نظام الأسد واحتواء إيران.
إنّ الوجود العسكري الاميركي في شمال شرق البلاد (وحول التنف في الجنوب)، الذي يشمل السيطرة الجوية الاميركية وتواجد الحلفاء على الأرض، يحول دون وصول الأسد وحلفائه إلى تلك المناطق، مما يعقّد أي تعزيزات أرضية كبيرة للوجود الإيراني في سوريا (حيث تمتد الطرق بموازاة المواقع الاميركية)، ويزوّد الشعب السوري بـ»منصة» للمعارضة السياسية أو العسكرية المحتملة لدمشق. وتشبه هذه المهام بشكل عام تلك التي تم تنفيذها بنجاح عندما فرضت الولايات المتحدة وبريطانيا حظراً جوياً فوق المناطق الكردية شمال العراق في الفترة 1991-2003. لكن حتى مثل هذا الوجود العسكري وهذه القدرات العسكرية ليس باستطاعتهم تحقيق نجاح سياسي تلقائي في الصراع السوري الأوسع نطاقاً.
وبدلاً من ذلك، يجب أن يقترن الوجود العسكري بخطة عسكرية دبلوماسية اقتصادية شاملة رداً على تهديدات دمشق الخطيرة الموجّهة لمواطنيها وللمنطقة. وبإمكان مثل هذه الخطة أن تستند على قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015)، الذي يقرّ بتهديدات دمشق، إلى جانب التعاون مع القوات التركية في شمال غرب سوريا (وتجنب النزاع بينها وبين الأكراد السوريين المتحالفين مع الولايات المتحدة)، والجهود المشتركة مع إسرائيل والدول العربية المجاورة، وعبر منع جهات المساعدة الدولية من إعادة الإعمار ونقل حقول النفط الشمالية الشرقية إلى الأسد في ظل غياب نتيجة سياسية مقبولة.
ولا يمكن لمثل هذه الخطة أن تضمن النتائج، ولكن من خلال تكبيل موسكو وطهران ودمشق فإنها ستوفر ما هو مفقود اليوم، وهو إعطاء هذه الدول سبباً للقيام بالتنازلات في ما يخص مستقبل سوريا. وفي المقابل، من شأن الانسحاب الجوي والبحري الاميركي الكامل أن يولّد الصراع والفوضى، وخير دليل على ذلك هو الانسحاب عام 2011. لكن مثل هذا الانسحاب هو أخطر هذه المرة من الصراع مع تنظيم «الدولة الإسلامية» – إذ سيورّط حلفاء الولايات المتحدة كإسرائيل وتركيا وربما السعودية في قتال مرتبك مع التحالف الذي يجمع بين الأسد وإيران وروسيا، دون تواجد حَكَمٍ أميركي.
*جيمس جيفري زميل متميز في زمالة «فيليب سولوندز» في معهد واشنطن.