د. رياض عبد عيسى الزهيري
أن التناقضات بين مواد الدستور العراقي الجديد كثيرة. فهذا الدستور بدلا من ان يضع حلولا واضحة لمشكلات الدولة والسلطة والمجتمع ، وضع المعوقات واثار الخلافات نتيجة للغموض في صياغة اغلب مواده اولا، وبسبب الادلجة التي اكتنفت معظم مواد هذا الدستور ثانيا ،وتسويده المصالح الذاتية على المصلحة الوطنية العليا ثالثا.
في هذا المجال نشير الى حالة من حالات هذه التناقضات وهي التي تتعلق بالأحكام الدستورية التي تنظم اختصاصات الاقاليم والمحافظات .
لقد وضعت المادة (13) من الدستور مبدأ دستوريا عاما تقره جميع دساتير العالم كما يقره ويحترمه القضاء والفقه الدستوري ، وهو مبدأ علوية وسمو الدستور الذي يجعل الدستور أعلى وأسمى من جميع القوانين .وبناء على هذا المبدأ تترتب النتائج القانونية التالية :
1- عدم جواز تشريع أي قانون يتعارض مع هذا الدستور سواء كان هذا التشريع مركزيا (اتحاديا) أو محليا (اقليميا) . ويحكم القضاء المختص بعدم دستورية التشريع الذي يخالف هذه القاعدة.
2- تكون قواعد هذا الدستور ملزمة في جميع أنحاء الوطن ومن دون أستثناء .
3- يعد باطلا كل دستور أقليمي أو أي نص قانوني أخر اذا تعارض مع احكام الدستور العراقي .
على اساس هذا المبدأ الدستوري العام تأسس مبدأ التدرج القانوني الذي يجعل القاعدة القانونية الادنى خاضعة الى القاعدة القانونية الاعلى ، وان الاولوية تكون للقانون الاعلى في حالة التناقض والاختلاف مع القانون الادنى . وبموجب هذا التدرج يتم حماية النظام القانوني العام واستقراره ومن دونه تحل الفوضى وخراب أسس وكيان الدولة والمجتمع وما ينتج عن ذلك من اثار سلبية وكارثية على كافة الميادين.
من هنا فأن احترام هذه المبادئ الدستورية العامة، المتفق عليها فقها وقضاء، يقتضي ان لا تتعارض التشريعات الصادرة عن السلطة التشريعية الوطنية او المحلية مع الدستور العراقي، كما يجب- في ذات الوقت – ان لاتتعارض التشريعات المحلية الصادرة عن الاقاليم او المحافظات مع القوانين الاتحادية في النظام العراقي الفيدرالي، وفي حالة وجود مثل هذا التعارض والاختلاف فأن المنطق القانوني السليم يتطلب ان تكون الاولوية في التطبيق للدستور العراقي والقانون الاتحادي.
غير أن الدستور العراقي قد شذت قواعده عما اعتادت عليه كل دساتير العالم وقفز على المبادئ الدستورية المتعارف عليها . بحيث منح القاعدة القانونية الادنى قوة قانونية تجعلها اعلى من القاعدة القانونية الاعلى وسيكون لها الاولوية في حالة وجود اختلاف او تعارض بين القاعدتين.
فالمادة (115) من الدستور العراقي تنص على انه (( كل مالم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية ،يكون من صلاحية الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم ، والصلاحيات الاخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والاقاليم، تكون الاولوية فيها لقانون الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم ،في حالة الخلاف بينهما)). أن مدخل هذه المادة يمكن ان يكون صحيحا ومقبولا عندما نص على ان كل مالايدخل في الاختصاصات الحصرية للمركز يعد من اختصاص الاقليم او المحافظات. ألا ان هذا المدخل استخدم كغطاء لآخفاء حقيقة ماورد في السطر الاخير من هذه المادة الذي شرع لمبدأ خطير جدا قد يؤدي الى سلب اختصاصات السلطة الاتحادية ( المركزية )، فهو يشرع لمبدأ أولوية تطبيق قانون الاقليم او المحافظة في حالة الاختلاف مع القوانين الاتحادية ، الامر الذي يؤدي الى تغليب المصلحة المحلية على المصلحة الوطنية العامة عند التعارض والاختلاف بينهما . لذلك أدعوا لجنة تعديل الدستور الى اعادة النظر في هذه المسألة التي اراها خطرا على المستقبل السياسي والدستوري العراقي والاكتفاء بالمبدأ العام الوارد في صدر المادة اعلاه الذي يقول ب (( ان كل مالم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية والمشتركة يكون من صلاحيات الاقاليم )) . وفي هذا الخصوص نرى ان يقتصر هذا الامر على العلاقة بين المركز والاقاليم دون ان يمتد الى العلاقة بين المركز والمحافظات غير المنتظمة بأقليم، بسبب الاختلاف في درجة و طبيعة هذه العلاقة اولا، وبسبب ان هذه العلاقة تخضع الى مبادئ النظام الاداري اللامركزي وليس الى النظام الفيدرالي ثانيا. وبالتأكيد فأن الخلاف في هذه المسألة يخضع الى رقابة وتفسير المحكمة الاتحادية العليا تطبيقا للمادة (93) من الدستور.
لم يتوقف الدستور على ماتقدم في مخالفة المبادئ الدستورية المعروفة والمستقرة ،وانما اراد ان يجعل هذه المخالفة مبدأ دستوريا عراقيا عندما منح الاقاليم صلاحية تعديل « تطبيق « القانون الاتحادي . فالمادة (121) من الدستور تنص في فقرتها الثانية على انه (( يحق لسلطة الاقليم ، تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الاقليم ،في حالة وجود تناقض أو تعارض بين القانون الاتحادي وقانون الاقليم ، بخصوص مسألة لاتدخل في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية)).
ان هذه المادة تمت صياغتها على نحو يجعلها قابلة للتفسير والتأويل على اكثر من منحى ، فهي تنص على تعديل « تطبيق « القانون الاتحادي ، بالشكل الذي يجعلنا نعتقد بأن التعديل لايمتد الى القانون الاتحادي مباشرة وانما يقتصر على « تطبيق « هذا القانون في الاقليم ، كأن يصدر نظام او قرارات او تعليمات تتعلق بتطبيق القانون الاتحادي في مجال الاقليم، وتتضمن اختلافا او تعارضا مع قانون الاقليم ،ففي هذه الحالة يكون من صلاحية الاقليم تعديل هذه الانظمة او القرارات او التعليمات دون ان تمتد هذه الصلاحية الى تعديل القانون الاتحادي ذاته.
ولكن عندما ندقق في نص المادة اعلاه نجد ان المشرع الدستوري يقول بأن هذه الصلاحية يمارسها الاقليم في حالة وجود (( تناقض أو تعارض بين القانون الاتحادي وقانون الاقليم ))ولم يقل بأن هذا التعارض والتناقض بين « تطبيق « القانون الاتحادي وقانون الاقليم ، الامر الذي يمكن تفسيره على ان وجود مثل هذا التعارض والتناقض يمنح الاقليم صلاحية تعديل القانون الاتحادي ، وهو أمر بالغ الخطورة خاصة اذا انتظمت جميع المحافظات في عدة اقاليم ولكل منها صلاحية تعديل القوانين الاتحادية وفقا لمصالحها المحلية .
علاوة على ماتقدم لم يقرر النص اعلاه من هي الجهة التي تحدد وجود هذا التعارض والتناقض الذي يجري التعديل بسببه. هل هي الاقليم ام المركز ام السلطة القضائية ؟، ان غموض صياغة النص توحي بأن الاقليم من يقرر وجود او عدم وجود هذا التناقض او التعارض . ومن ثم اذا قرر الاقليم وجود هذا التناقض او التعارض فأنه يصبح بإمكان سلطة الاقليم تعديل القانون الاتحادي وهو أمر يتنافى مع المنطق الدستوري الذي يعمل وفقا للمبادئ الدستورية المشار اليها سابقا.
أننا نعتقد ان منطق المادة (121) اعلاه يدعو بصراحة الى نسف مبدأ علوية الدستور التي نص عليها الدستور في المادة (13) منه .كما يعمل بالضد من مبدأ التدرج القانوني ، وهو يخضع الحكومة الاتحادية الى أهواء ومصالح اقليم من الاقاليم أو محافظة من المحافظات، ويجعل من سلطة الاقليم او المحافظة سلطة أعلى من سلطات الدولة الاتحادية .
الخلاصة
أن المواد (115) و (121) من الدستور العراقي الجديد تشكلان خطورة بالغة على مستقبل النظام الدستوري العراقي بسبب استبعادهما للمبادئ الدستورية المتعارف عليها ، ولتغليبهما المصلحة المحلية للاقاليم والمحافظات على المصلحة الوطنية العامة عند تعارضهما او تناقضهما. لذلك وجب تعديلهما بما يتطابق مع هذه المبادئ . كما يجب اعادة النظر في مشروع قانون المحافظات غير المنتظمة في اقليم الذي اعتبر مجلس المحافظة سلطة تشريعية بخلاف ماهو معروف في النظام الاداري اللامركزي الذي يعتبر مثل هذا المجلس مجرد سلطة تنظيمية لايمتد اختصاصه الى التشريع.
*نقلا عن موقع السلطة القضائية