أحمد عبد اللطيف
لوركا لا ينفد، ربما هو أحد الكُتّاب الذين برهنوا على أن الموت ليس نهاية الكاتب، وأن البحث في الصناديق المختبئة يؤدي في كثير من الأحيان للعثور على مخطوطات أو مشاريع غير مكتملة. ولوركا لم يغب منذ أكثر من ثمانين عامًا، رغم أن الموت غيّبه صغيرًا. كأن الموت بصورة أخرى منحه حياة مضاعفة، وربما منحه قدرُهُ الغزارةَ في الإنتاج المتنوع ما بين شعر ومسرح وفن تشكيلي حتى يموت مطمئنًا أن قصر العمر لم يؤثر كثيرًا على إنتاجه. لوركا لا ينفد لأن أخباره لا تزال تتداول، كأنه لا يزال يقوم بأنشطة فنية. ما بين البحث عن قبره، ونقل رفاته، وعلاقته بسلفادور دالي، وإعادة طبع أعماله، وظهور من يكتب سيرته، والعثور على كتابات له بل وإكمالها، لوركا موجود. ومؤخرًا كان موجودًا بمسرحية بدأها ومات قبل أن يتمها، ولأن الجزء المكتوب رسم تقريبًا مصير الأحداث والشخصيات، تمكَّن الكاتب الإسباني ألبيرتو كونيخيرو من استكمال العمل، بل وصدر في كتاب بعنوان «حلم الحياة»، كتب مقدمته الناقد إميليو بيرال وتم إطلاقه منذ عدة أيام بحضور مسرحيين وساسة ومثقفين بجانب لاورا جارثيا لوركا، ابنة أخته، وينتظر أن تعرض المسرحية على أحد مسارح مدريد خلال الشهور القادمة.
بدأ كونيخيرو (خآين/ إسبانيا- 1978) العمل على المخطوط منذ سنوات، استجابة لـ «صوت يأتي من بعيد» ويطلب منه أن يكمله. يحكي أنه تخلى عن خوفه والخوف من الضجة التي قد تثار إن عمل على نص لكاتب بشهرة لوركا وأسطوريته، وقرر أن يكمل فصول المسرحية الناقصة. قبل ذلك نشر كونيخيرو العديد من الأعمال، أهمها «الحجر الأسود»، وبالانتهاء من عمل لوركا يكون قد انتهى، بحسب تصريحه لجريدة الباييس، من «وسواس راوده منذ مراهقته».
تتكوّن مسرحية «حلم الحياة» من ثلاثة فصول، كعادة لوركا، لكن الشاعر الغرناطي لم يكن كتب إلا الفصل الأول فحسب، وصنّفها بأنها «كوميديا» «دراما اجتماعية»، من دون أن يعنونها، بحسب ما صرح به قبل اغتياله في أغسطس/آب 1936 أثناء الحرب الأهلية الإسبانية. بالانتهاء من هذا العمل، تكون ثلاثية مسرحية قد اكتملت: «الجمهور» و»هكذا مرت خمس سنوات» والآن «حلم الحياة».
يقول كونيخيرو إن «حلم الحياة» نص مكتوب في فضاء لا نهائي، إنه حوار بين ما كان وما لم يمكن أن يكون، ويؤكد أنه كتبه لاحتياجه إلى ذلك. وأثناء عمله على النص، لم يتطلع إلى مضاهاة لوركا أو وضع نهاية للنص. ورغم أن أحدًا لم يهاجم النص المكتوب حتى الآن، رغم صدور الكتاب وعرض المسرحية، إلا أن كونيخيرو لا يزال يتوقع نقده. ربما هو قلق في النهاية لوضع نفسه في نص واحد مع لوركا.
فكرة استكمال عملٍ لكاتب ودّع الحياة فجأة متكررة في اللغة الإسبانية، مثلها مثل أن يحوّل كاتبٌ قصة كاتب آخر إلى رواية. في الحالة الأولى لم يتم روبيرتو بولانيو عمله الكبير «2666»، إذ مات قبل ما يتصور أنه النهاية، فاجتمع نقاد أدبه واستكملوا الخط لآخره. وفي الحالة الثانية عمل الروائي الإسباني أجوستين مايو على إحدى قصص بورخس، وصنع منها رواية، وكانت ذريعته أن بورخس نفسه كان من أنصار تدوير الكتابة، وبورخس بالفعل لعب نفس اللعبة مع التراث العربي السردي والتاريخي. هذه التجارب ربما تبرهن على أن النصوص لا متناهية، وأن كل نص يمكن الخروج منه بنصوص أخرى. في حالة لوركا وكونيخيرو كان الهدف، كذلك، هو اللعب مع النص وليس استكماله كأنه واجبٌ أخلاقي فحسب، إنه محض استجابة لنداء نص، ذلك ما دفع المؤلف لعدم تقليد لوركا، بل الاستسلام لمغنطة النص، أو كما يقول هو «شعرت في كل لحظة بمرافقة لوركا. المغنطة كانت قادمة من مكان بعيد، من قراءة مستمرة لنصوصه وأشعاره، هكذا اختلطت بروحه. الكاتب هو مجموع قراءاته السابقة التي كوّنت صوته ذاته».
كونيخيرو تحرر من الخوف، فبدت «حلم الحياة» لعبة مسرحية، يقول: «اللعب شيء مقدس يجب أن ندافع عنه في امبراطورية الأدب باعتباره ضروريًا ومنتجًا ومفيدًا»، وفي هذا اللعب تكمن متعة الكاتب، وفي هذه المسرحية تتصارع الحقيقة والحب لتُفتح الأبواب على أشواق ثورية من أجل عالم أكثر عدلًا، بينما تفتح أيضًا على عالم أكثر محافظة وعدوانية.
ما حاول كونيخيرو أن يفعله ألا يبتعد عن المسرح المعاصر، وفي نفس الوقت الحفاظ على وجود لوركا، ما عبّر عنه بأنها ليست عملية رسم فوق رسم، بل حوار معه.
وخلال هذه الأيام يعمل فريق مسرحي على بروفات العمل، بذلك سيعود لوركا إلى المسرح بمسرحية جديدة، رغم أن مسرحياته الشهيرة لا تزال تمثل أيضًا في مسارح إسبانيا.