في فيلم الدراما الأمريكي(The Fault in Our Stars) يسعى الشاب أوغستس إلى تحقيق أمنية حبيبته هيزل، المصابة بسرطان الرئتين، في مقابلة كاتبها المفضل الروائي بيتر فان هاوتن، فينسق بصعوبة مع مساعدة الكاتب، ثمّ يسافران من ولاية إنديانا الأمريكية ــ رغم سوء حالة هيزل الصحية ــ لمقابلته في أمستردام.
لم ترُقْ المقابلة لهيزل بعد أن اتّضح لها أنّ كاتبها المفضل سِكّير سليط اللسان، وأنّه وافق على مقابلتها بعد ضغطٍ من مساعدته. حاولت هيزل تجاهل كلّ هذا من أجل طرح سؤالها الذي جاء بها كلّ تلك المسافة، وهو مناقشة نهاية روايته المحنة الإمبراطورية، غير أنّ الكاتب أهانها، وسخر من مرضها، وصرخ بها قائلاً:
إنها مجرّد شخصيات خيالية تبخّرت بمجرد الانتهاء من الكتابة.
فما كان من هيزل إلا أن لعنته وغادرت.
مثل بيتر فان هاوتن، أعرف عشرات الكتّاب الذين لعنهم قرّاؤهم بعد أول لقاء معهم، اللقاء الأول والأخير والذي سيندم عليه القرّاء مثلما سيندمون على ساعات عمرهم التي أنفقوها في قراءة نتاج هؤلاء الكتّاب المتخمين بالأنانية المفرطة والزهو المتضخّم. ولهذا قيل: من الأفضل أن لا تلتقي بكاتبك المفضل.
غير أنّ علي السباعي لم يكن من هذه الفئة أبداً.
يوم أعارني أحدهم مجموعةً قصصيةً عنوانها (إيقاعات الزمن الراقص) لقراءتها، سحرتني فيها عدة أشياء، منها: كثافة العنونة، واختزالها المذهل حدَّ جعلِها أيقوناتٍ مُشفِّةً عمّا يختبي وراءها من سرد، واقتضابها الذي يمنحها صلاحيةَ أنْ تسير كأمثال شائعة، مثل: الخيول المتعبة لم تصل بعد، هكذا وجدت نفسي، ضريح الأمس ضريح اليوم، وعرس في مقبرة.
أذكر ذات مرّة أنْ دار جدل لطيف حول تاريخانيّة قصة عرس القاسم في الميثيولوجيا الشيعية، سألني أحد المتجادلين عن خلاصة رأيي في النقاش، فأجبته على الفور: عرسٌ في مقبرة!.
الأمر الآخر الذي شدّني إلى هذا الكاتب، وقتَ لم أتعرّف عليه بعد، هو إنسانيته المفرطة التي تسرّبتْ إليّ من مسامات قصصه الواقعية المحضة الحافلة بالهمّ الجمعيّ. هذه الثيمة الإنسانية التي طغت على قصصه، جعلته ــ وأقتبس هنا ــ على درجة من الرهافة في التعامل الفنيّ مع الحدث.
ويومَ التقيتُه، فرّخ ذلك اللقاء الأوّل عدّة لقاءات أُخَر، لعلَّ أجملَها لقاؤنا السنويّ في يوم عيد الشجرة أو عيد الربيع. وماذا يريد قارئ مثلي أكثر من أن يتحوّل كاتبه المفضّل إلى شجرة خضراء تجرّ الربيع والينابيع خلفها وتزوره في بيته؟!.
وفي الوقت الذي يُصرّ الكُتَّاب ــ الذين يلعنهم قرّاؤهم بعد أول لقاء ــ على نظرية موت المؤلّف، فإنَّ علي السباعيّ ــ الموغل في إنسانيته سرداً وذاتـاً ــ جعلني أتساءل:
إلى أيّ مدى يمكن للكتابة أن تعكس شخصية الكاتب؟
والحقيقة أنّ هذا السؤال طرحته قبلي الشاعرة والإعلامية بروين حبيب في مقالة لها على صفحات القدس العربيّ، ثمّ أجابت عليه بالقول:
حيّرني هذا السؤال كثيراً خلال مشواري التلفزيوني الذي جمعني بكتّاب كبار من كل العالم العربي، ومنح لي فرصة اللقاء المباشر بهم، ولقد تبيّن لي أنّ الكتابة قناع يرتديه الكاتب ليعيش ويشيّد عالمه الوهميّ، الكتابة مادّة عازلة تُخفي شخصية الكاتب الحقيقية، ولعلّه من النادر جداً أن يتطابق الإثنان.
أيتها السيّدة بروين:
اعلمي أنَّ من هذا النادر جداً الذي ذكرته، صديقي الكاتبَ علي السباعيّ، عرّابَ الأدب الإنسانيّ (والأدب ليس إلّا أحد أشكال التعبير الإنسانيّ…)، والوجهَ الأنصعَ لِما يُسمّيه الدكتور محمد النويهيّ بالصدق الفنيّ، رغم أننا الآن في زمن سرديّ لم نعد نستطيع أن نميّز ــ فيه ــ بين صادقٍ وزائفٍ في الفنّ، على حدّ تعبير أدونيس.
شاكـر الغـزّي
عن الأسمر الذي يسرُّ من رآه
التعليقات مغلقة