علوان السلمان
الشعر.. مغامرة تقتضي التفكير والتأمل في استنطاق الاشياء واعادة خلقها ابداعيا من خلال التفاعل بين العالم الخارجي(الموضوعي) بطبيعته الكونية والعالم الذاتي.. انه قيمة حضارية نوعية متآمرة باستمرار على الحلم بوساطة الوعي الذي تحفر اخاديده وتعمقه التجربة الحياتية التي تخط خطوطها التشكيلية على ذهنية الشاعر صاحب الانجاز والتجاوز..بتعبيراته الذاتية المكتنزة في ثنايا العقل والتي ينبشها الوعي فيحقق وجودها الفاعل من خلال النصوص التي هي شكل من اشكال الوعي الابداعي الخلاق عبر الرؤية الكونية التي تشهد بتقديم نص يستوعب العصر ويحرك الخزانة الفكرية للمتلقي من خلال اضائته من الداخل..اذ ان معيار الحداثة الشعرية يكمن في التجديد والابتكار والاستيعاب الواعي لمعطيات العصر والتعبير عن مضمونه المتمثل في الانتقال من (الثابت الى المتحول)..
والشاعررعد زامل في مجموعته الشعرية(اختلطت على بوصلتي الجهات) التي اسهمت في نشرها وانتشارها دار ومكتبة اوراق/2018..والتي ضمت بين دفتيها التي طرزتها لوحة مشحونة بدلالات واقعية مغلفة برومانسية شفيفة خلت من توقيع صاحبها.. وقد استأثرت بفكر ووجدان المنتج الشاعر ليحملها افكاره والتعبير عن هواجسه وهي تركز على الدال البصري بنصوصهاالستة عشر نصا احتلت فيها القصيدة القصيرة مساحتها….
أعتذر للاشجار التي وعدتها
بهطول خضرتي عليها
أعتذر للنهر الذي كانت دموعي
دائما تسبق أمواجه في الجريان
أعتذر للارض التي أجلدها بخطاي
حين التسكع
أعتذر لصغاري العصافير
الذين سأحملهم كتعويذة
وانا اهم بالهجرة
في كل حين
أعتذر للشمس
التي لم أتعلم منها
كيف أضيء حياتي بشمعة ص5 ـ ص6
فالشاعر في نصه يتعامل والوجدان الاجتماعي المشترك المثير لانفعالات الوجود الانساني.. ليعبر عن حب متسام داخل الوجود بصورة عفوية..لذا جعل من ذاته بؤرة لنصه الشعري..يتفاعل بها ومن خلالها والطبيعة عبر لغة بعيدة عن التقعر..تشكل تشكيلاتها الفنية داخل المجرد..كونه يعي ان الكتابة لا تنهض الا على ممكن التواصل..لذا فالنص يشكل تجربة تبحر بعيدا في لغتها وايقاعاتها وصورها البصرية لتحقيق المتعة الروحية والمنفعة الفكرية الجمالية.. وتمثيل الوجود بمنظور قائم على التخيل..
يامن قلت للاشجار
كوني مظلة خضراء للعابرين
وقلت للنجم
كن بوصلة
في ذاكرة المبحرين
انت يا من قلت للصمت
كن في الفتنة
تلا يعصم المتوارين
لماذا عند الهجير
تركتني
تأكل الشمس من راسي
بينما اقدامي
على جمر الكلام؟ ص20 ـ ص21
فالنص يقدم نسقا احتفاليا يقوم على انتزاع الصور ..وقد امتاز بحسيته المتوالدة في الذهن..فكانت صوره مقصودة لذاتها لتحقيق رغبة جمالية عبر سردية سيرية تعتمد ضمير المتكلم الذي ظل حاضرا على امتدادات نصوصه الشعرية ….وقد لازمت افعالا تدل على الحركة وهي ترسم اللحظة المقترنة بحسيتها الايقاعية لتجسيد دراماتيكية تعكس التأثير النفسي..انها افعال حسية بجمل متوترة قصيرة تجسد اللحظة الحاضرة المأزومة للشاعر..لذا فالفعل هو محور الحركة والتحول من خلال صور الواقع التي يقيمها الشاعر على المتناقضات لتصوير الصراع النفسي الحاد الذي يتوالد من ضغط هذه المتناقضات..
من آخر القصب
الذي لا يشبه القصبا
أغفو على
نهر يتيم لم يجد
غير الثرى
أما ولا غير العراق
أبا
أغفو على شجر
اذا مرت عليه الحرب
أمسى عمره حطبا /ص71 ـ ص72
فالنص يزاوج بين الحسي والذهني لخلق العمق التصويري المشبع بالدهشة من خلال وحدة التعبير عن الجمال وكوامن الوجد فيركز على المعنى باعتماد الايجاز المكتنز بالرمز من اجل اغنائه والتعبير عن القيم الاجتماعية.. فضلا عن انه يعتمد التضاد لخلق دينامية الصورة التي تقوم على شعرية الرؤيا في اطارها البنيوي.. فيرتقي الشاعر بالمفردة الى مستواها الدلالي لاحداث المتعة الفنية من خلال تركيزه على العناصر الشعورية والنفسية واظهار الذات في جدليتها مع الواقع.. لخلق نص تتداخل فيه خطوط الابداع(الانسان ـ الوطن ـ الطبيعة)والتي تكشف عن الحالة الشعرية القادرة على تذويب تلك العناصر المتحركة.. النامية..الممتدة عضويا وتشكيلها فنيا في اطار الرؤيا الشعرية..هذا يعني ان الشاعر ينسج لحظته ويودعها حلمه الذي يربط بين الذات والموضوع برباط الزمن..وهذا دليل اليقظة الفكرية للشاعر ووعيه بحركة الزمن(المعطى الموضوعي السابق لحركة الانسان وفعله ورؤيته..)
ناموا..
ووحدك موعود
مع السهر
ياأسمر الظل
يا طيفا من المجر
ناموا..
وما فتحوا شباك امنيتي
على النسيم
وما قالوا لها: اعتذري
ناموا…
وحولي من النيران
اسئلة تدري
بأن جوابي
يابس الشجر..
وكلما مر غيمي
فوق شرفتهم
تعثر المطر
المحمول بالمطر… //ص77 ـ ص78
فالنص يتميز بدفقة درامية من خلال بروز عنصر الحوار الداخلي الذي يشكل وسيلة التوصيل داخل النص.. كونه تعبير عن ابعاد فكرية وشعورية..مع اعتماد حوار الموجودات لخلق معادل اجتماعي واخراج الاشياء من صمتها وسكونها وانسنتها..اضافة الى اشتراك الحسي والمتخيل في البناء النصي.. فيكشف الشاعر عن انفعالاته الداخلية ..عبر لغة موحية مؤثرة..تركز على التفصيل الحركي الحكائي الذي يتجلى عن طريق تتابع الافعال وتحديد المكان وابراز معالمه مما اعطى النص دفقا نحو واقعية الحدث..وهو يعتمد الوحدة الشعرية المتخيلة في (الصورة التي تقدم عقدة فكرية وعاطفية في برهة من الزمن..)كما يقول ازرا باوند.. فضلا عن محاولة الشاعر استثمار بعض التقنيات الفنية والاسلوبية لتجاوز المألوف كتقنية التكرار النمط الصوري الكاشف عن الجانب الصوتي والدلالي للنص المؤسس ببنية صوتية مؤطرة بنظام التكرار المدور مع تميزه بابعاد رؤيوية تتناغم فيها الاصوات والالوان والصور فتتجلى فاعلية اللغة بوصفها تجسيدا للوعي الواقعي وايقاع الحياة اليومي.. فضلا عن كشفه للحالة النفسية والانفعالية للذات الشاعرة.. وهناك تقنية التنقيط النص الغائب الذي يستدعي المستهلك لاستحضاره..اضافة الى الحوار المنولوجي..
وبذلك قدم الشاعرتجربة ذاتية تمزج بين الشعرية والهم الشعري المنبعث من غربة تحاول ان تعبر عن موقف اجتماعي.. انساني حمل دلالات الواقع بكل تناقضاته وابعاده..