ماكس فيشر
على الرغم من انهيار بعض الأنظمة على مدى عقود من الزمن أو تهشم ديمقراطياتها المزعومة بيد أن هذا المنحى لم يكن مطبقاً على الصين، إذ بقيت هذه الدولة محافظةً على قوتها وازدهارها، فهنالك دوماً شيء مختلف في شكل النظام الاستبدادي لدى الصين.
لقد كان الحزب الشيوعي الصيني حازماً في قمع المعارضة وسحق التحديات المحتملة، لكن بعضهم أشار إلى أنَّ المعارضة نجت من محاولات الحزب بقمعها عبر تطويرها لمؤسسات قوية بنحوٍ غير اعتيادي ملزمة بقواعد ومعايير صارمة. وتعدُّ الصين ثاني أهم الدول التي تحكم عبر القيادة الجماعية -أي يتم حكمها عبر توافق الآراء وليس عبر رجل قيادي واحد قويّ- وهذا الشكل من نظام الحكم يستمر لفترات زمنية محددة.
وحينما أعلن الحزب الشيوعي هذا الأسبوع أنه سيضع حداً للفترات الرئاسية المحدودة، والسماح لشي جين بينغ بتولي مهام منصبه إلى أجل غير مسمى؛ فإنه بالتالي سيحطم هذه القواعد والمعايير. ويبدو أن الصين قد تسرعت بهذا القرار الذي قد يؤدي -حسب رأي العلماء- إلى صِدام وشيك مع قوى التأريخ التي كانت الصين تسعى دوماً إلى تفاديه.
ويؤكد تأريخ نظام الحكم في الصين على وصف وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون لقادة بكين “بالحمقى”؛ وذلك لتمسكهم بنظام حكم لا يمكن أن يستمر طويلاً في العصر الحديث، ولكن السيد شي عبر انتقاله إلى نظام الحكم الذي يقوم على حاكم واحد قوي فهو في هذه الحالة يؤكد على فكرة أن الصين دولة مختلفة وبإمكانها إعادة تشكيل النظام الاستبدادي لهذا العصر. وإذا نجح، فإنه لن يضمن مستقبله وحده فقط، ولن يوسع من نطاق مستقبل الحزب الشيوعي الصيني فحسب، بل يمكنه أيضاً أن يضع أنموذجاً جديداً للاستبدادية لتحقيق الازدهار في العالم.
أصعب نوع من الديمقراطية
إذا بقيَ السيد شي في منصبه إلى أجل غير مسمى -كما يتوقع كثيرون الآن- فإنه بذلك يضفي الطابع الرسمي على المسيرة التي اضطلع بها لسنوات، حيث كان يسعى إلى تجريد المؤسسات الصينية من القوى وجعلها مقتصرة عليه فقط؛ وبالتالي، سيساعد ذلك على تقسيم الديكتاتوريات عقلياً على فئتين: مؤسسية، وشخصية. إذ تعمل الأولى من خلال اللجان والبيروقراطيات وشيء مثل التوافقية أو من هذا القبيل. أما الأخرى فتُطبّق عبر قائد مؤّثر واحد.
وتُعدُّ الصين مزيجاً من الأنموذجين (المؤسسي، والشخصي) على الرغم من أنها الوحيدة التي اتبعت الأنموذج الأول بطريقة المنهج السقراطي. وعلى وفق ورقة بحث كتبها باري نوتون -وهو باحث بقضايا الصين في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو- أكد فيها أن السيد شي جعل نفسه “العنصر الفاعل المهيمن في التنظيم المالي والسياسة البيئية وكذلك السياسة الاقتصادية”.
وقد قاد السيد شي أيضاً حملات واسعة لمكافحة الفساد طهّرت أعضاء الفصائل السياسية المتنافسة على نحو غير متكافئ؛ مما عزز ذلك من نفسه ولكنه قوض النهج الصيني القائم على توافق الآراء.
وهذا الشكل من الاستبدادية يصعُب الحفاظ عليه، فعلى وفق بحث أجرته إريكا فرانتز -وهي عالمة في قضايا الاستبداد في جامعة ولاية ميشيغان- جاء فيه: “إن النظام الذي يعتمد على رجل واحد أو نظام الشخصنة لا يعدُّ نقلة متطورة”.
وغالباً ما تكون الجوانب السلبية غير ملحوظة، وترى الدراسات أن السياسات المحلية تميل إلى أن تكون أكثر تقلباً وتحكم بطريقة غير منتظمة وتكون سياستها الخارجية عدوانية أكثر، ولكن الخطر الأوضح يأتي مع استمرارية الحكم.
ويقول ميلان سفوليك -وهو عالم في الشؤون السياسية بجامعة ييل-: “هنالك سؤال يجول في خاطري أود أن أساله لأصحاب الاختصاص الروس وهو: إنْ تعرّض بوتين لأزمة قلبية في المستقبل فماذا سيحدث؟ لا أحد يعلم الجواب”. وقال “إن الإجابة عن هذا السؤال حتى الآن في الصين هي واضحة جداً”، إذ إن الحاكم الذي قضى نحبه سيترك وراءه مجموعة من القواعد المتفق عليها التي ينبغي القيام بها على نطاق واسع، وسيكون هناك توافق سياسي في الآراء بشأن كيفية القيام بذلك. وأضاف “يبدو أن هذا التغيير يعرقل ذلك”. وأردف سفوليك قائلاً: قد أظهر السيد شي -عبر تحديه قواعد خلافته- أنه يمكن كسر أي قاعدة.
إن السيد شي يضعّف من التوجه المؤسسي الذي جعل نظام الاستبدادية في الصين مرناً على نحو غير اعتيادي، بينما سمحت القيادة الجماعية والسلطة المنتظمة التي طُبِّقت في مدة حكم ماو تسي تونغ “الكارثية” بالحكم الفعال والمستقر نسبياً.
وكتب كين أوبالو -وهو عالم سياسي بجامعة جورج تاون-: “بعد إعلان الحزب الشيوعي، ستكون المراحل الانتقالية المنظمة أهم مؤشر على التنمية السياسية”، وإن “الرئاسات ذات المدى الطويل، تجمّد مجموعات معينة من النخب خارج السلطة. وتعمل على إزالة المحفزات للمتواجدين في السلطة؛ كي يتحملوا المسؤولية ويخضعوا للابتكار”.
ما الذي يجعل النظام الاستبدادي شرعياً
لقد كافح العالم في المجال السياسي بروس جيلي في عام 2005؛ من أجل معرفة الجواب حول إحدى أهم الأسئلة لدى أي حكومة وهي: هل يُنظر إلى الحكومة من قبل مواطنيها على أنها شرعية؟ وقد توصلت دراسته – عبر نتائج عددية تحددها مقاييس متطورة لمعرفة سلوك المواطنين تجاه حكومتهم- إلى أن الصين تتمتع بشرعية أعلى مقارنة بالعديد من الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية. وأيد جيلي النمو الاقتصادي والمشاعر الوطنية والقيادة الجماعية؛ لكنه حين عاد إلى نتائجه السابقة التي توصل إليها عام 2012، وجد أن النتائج العددية للصين قد انخفضت، وأظهرت بياناتُهُ طليعةَ النفوذ الذي يُعتقد منذ مدة طويلة أنه أدى إلى هلاك النظام الصيني. إذ تقول “نظرية التحديث”: إنه بمجرد وصول المواطنين إلى مستوى معيّن من الثروة فسيطالبون ببعض الأمور مثل: القابلية للمساءلة، وحرية التعبير، وإيجاد دور فعال في الحكومة؛ ونتيجة لذلك فإن الدول الاستبدادية غير قادرة على تلبية هذه المطالب، وبالتالي فإن عليها إما الانتقال إلى الديمقراطية وإما الانهيار في خضمّ التوتّرات. وهذا التحدي -الذي لا يتغلب عليه أي نظام استبدادي آخر -ما عدا الأنظمة الثرية بما فيه الكفاية لشراء مواطنيها- يتطلب مصادر جديدة للشرعية يتباطأ النمو الاقتصادي فيها؛ فالنزعة القومية -على الرغم من فعاليتها في حشد الدعم- من الصعب السيطرة عليها؛ لذا فإن الصين تعزز بدلاً من ذلك “الأيديولوجيا والقيم المجتمعية المشتركة” التي تخلق التوازن بين الحكومة والثقافة الصينية.
ويبدو أن شخصية السيد شي في السلطة تجمع بين كل من الرجال القدامى الذين يتبعون النمط القديم والشعوبيين الذين يتبعون الأسلوب الجديد والذين يرتقون بين الديمقراطيات في العالم، ولكن هذه الشخصية وبهذه الطريقة، تعدُّ حلاً شديد الخطورة وجزئياً لاحتياجات الصين، وأن تعظيم الشخصية يمكن أن يستمرّ لبضع سنوات أو ربما عقود ولكن ليس أكثر من ذلك.
المساءلة من دون الديمقراطية
تجرب الصين شكلاً من أشكال الاستبداد، وإذا نجحت فإن بإمكانها أن تغلق الفجوة التي لا يمكن وصلها بين ما يطلبه مواطنوها وما يمكن أن تقدمه الصين. وإن الحكومات الاستبدادية -بحكم تعريفها- غير خاضعة للمساءلة، ولكن بعض المدن والقرى الصغيرة في الصين تفتح المجال المحدود والمسيطر عليه للمشاركة العامة؛ على سبيل المثال: يسمح برنامج في الصين يسمى “صندوق بريد رئيس البلدية” للمواطنين بالتعبير عن مطالبهم أو شكاواهم ويُكَافأ المسؤولون الذين يمتثلون بتلك المطالب؛ ووجدت إحدى الدراسات أن البرنامج حسَّن من نوعية الحكم ورضى المواطنين بالدولة.
وقد بدأ هذا النوع من الابتكار مع المجتمعات المحلية التي أعربت عن إرادتها من خلال المعارضة والاحتجاج المحدود والمستمر في آن واحد، ووصفته ليلي ل. تساي -وهي باحثة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا- “بالمساءلة من دون ديمقراطية”.
ويتكيّف بعض المسؤولين الآن مع هذا الاتجاه، إذ قالت الباحثتان الصينيتان فيفيان شو وباتريشيا م. ثورنتون في كتاب جديد عن الحكم في الصين: إن هدف المسؤولين ليس جلب الانفتاح والتحرر بل مقاومته “لامتصاص الاستياء الشعبي دون زعزعة استقرار النظام ككل”.
ويبدو أن معظم الصينيين -كما تأمل حكومة بكين- سيرضون بالحكم الاستبدادي في حال قدّم بعض المزايا والفوائد التي وعدت بها الديمقراطية، وتتضمن الفوائد وجود حكومة جيدة إلى حد ما، ومسؤولين يستجيبون إلى مطالب المواطنين نوعاً ما، وحرية التعبير في حدود صارمة. وإن المواطنين الذين يقدمون مطالب كثيرة يواجهون الرقابة والاضطهاد بنحوٍ أكثر قسوة مما موجود في دول العالم الأخرى.
وهذا الشكل الجديد من النظام يمكن أن يقدم الكثير إذا قُورن بالتحفظ على عدم حدوث صراع صيني مع قوى التأريخ، ويمكن أن يوفر أنموذجاً للاستبداد؛ لتزدهر الصين عالمياً. وتبين السيدتان شو وثورنتون في كتابِهما “الكيفية التي يمكن بها للأنظمة غير الديمقراطية الاستمرار والنجاة والنجاح مع مرور الوقت”. إلا أنّ الاستيلاء على السلطة من جانب السيد شي، من خلال تقويض المؤسسات وتعزيز الانقسام الكلي بين الفصائل، فضلاً عن المخاطر جعلت هذا النوع من الابتكار أكثر خطورة وأكثر صعوبة. وحين يرسخ القادة السلطة لأنفسهم، فإنه -كما قالت السيدة فرانتز- تتضاءل قدراتهم مع مرور الوقت في الحصول على قراءة جيدة للمناخ السياسي في البلاد.
*مركز البيان للدراسات والتخطيط.