يوسف عبود جويعد
يقدم لنا القاص كريم صبح تجربته الثالثة في مجال فن صناعة القصة القصيرة والقصيرة جدا من خلال اصداره الثالث (رأس للإيجار) وخلال متابعتي لكتاباته التي تؤكد امتلاكه القدرة في إعتلاء صهوة هذا الفن الصعب وتؤشر هذه المجموعة حالة التطور الواضح في مسيرته الادبية، وقد تباينت مستويات السرد في هذه المجموعة بين المباشرة والتقريرية في بعض من نصوصها وكذلك النضوج التام في البعض الآخر. وقد استهلها بالقصص القصيرة جداً التي جاءت منسجمة والسياق الفني المطلوب في كتابتها من حيث التكثيف واللغة السردية المختزلة والاحداث التي تتطلبها هذه الصنعة إضافة الى التزامه التام بالضربة المفاجأة في نهايتها. وقد ارتأيت ان تكون تلك النصوص القصيرة جداً في نهاية المجموعة لتكون محطة استراحة بعد رحلة المتلقي في النصوص القصيرة وكذلك وجدت ومن الضروري أن اشير هنا الى ظاهرة تخص جميع كتاب القصة القصيرة والقصيرة جداً ولا تخص القاص كريم صبح وهي ضرورة معرفة القاص للانماط الادبية التي يجب ان يتبعها كأسلوب لتدوين النصوص إذ أن من المعروف هناك انماط عديدة يمكن للقاص ان يدون نصوصها بنسقها منها الواقعية السحرية الواقعية الاجتماعية الواقعية الاشتراكية الواقعية الجديدة الواقعية الجمالية الواقعية الفوتوغرافية، السوريانية، الرمزية، المستقبلية، الخيال العلمي، الفنتازيا، وهي مذاهب أدبية. على القاص والروائي دراستها وتعلم الاساليب التي من خلالها يتناول نمط من هذه الانماط، كون ان الاسلوب الواحد سيجعل من تلك النصوص حالة مكررة وتقليدية لأن النصوص لاتظهر فيها تلعب العيوب وهي متفرقة ولكن عندما تجمع وتضم بمجموعة الكثير من الوهنات تظهر فيها اتبع القاص نمطين من تلك االانماط الواقعية الانتقادية والواقعية السحرية التي ظهرت في النصوص التي اقتبست حكايات شعبية تراثية، وتاريخية فقد ضمت هذه المجموعة نصوص جعل فيها تلك الحكايات هي الاحداث داخل المبنى السردي مستخدماً فيها مخيلته الخصبة والمعالجات الفنية التي وظف من خلالها هذا الموروث الحكائي كسياق فني لتدوين نصوصه، وهي بعد ذلك سوف توسم بأسمه بينما هي حكايات مدونة ومثبتة في بطون التاريخ. وبما ان فن القص ادب ابداعي يجب ان يكون من فكر ومخيلة وتجارب القاص بعيداً عن هذا الاقتباس الذي هو خلل واضح في العملية الابداعية. ورغم كل هذا فأن تلك النصوص طغى عليها طابع الفن القصصي وكتبت بأسلوب الواقعية السحرية، ومن تلك النصوص (الواوي وصاحب الجلالة) وهي تروي لنا حكاية تاريخية عثر عليها طالب الدكتوراه مصعب الذي يدرس في لندن عن انتصار عشائر الجنوب على بريطانيا العظمى كما يسمونها عندما حاول جنود من البريطانيين سرقة (واوي) الشيخ وهو من النوع النادر وقد تم سرقته ونقله الى جلالة ملك بريطانيا الا ان ثورة الشيخ وعشيرته وابناء القرية والاشتباك في معركة كبيرة جعلت بريطانيا العظمى ترضخ لأوامر الشيخ وتعيد واوي شبيه له كون الواوي الذي احتفظ به الملك استطاع ان يعض الملك ويهرب من القفص. وتلك الحكاية كانت في بطون سجلات التاريخ البريطاني وتدرس في الجامعات البريطانية عن كيفية قلة من ابناء عشائر الجنوب استطاعوا الانتصار على هذه الدولة الكبيرة وإن أوعز ذلك الى ان القاص عمد اعادة تدوينها بلغة سردية من اجل التذكير بها و(التوأم والقس)تحكي تلك الحكاية المعروفة لدى الجميع عن الرجل المشلول بشير من الطائفة المسيحية وسمير الاعمى المسلم الذي كان يحمله للمقهى كونه كان يعمل (قصّخون ) فيها وكان سمير يبيع اللبلبي امام باب المقهى حيث كان سمير الاعمى يحمل بشير المشلول ليدله على الطريق الى آخر الحكاية المعروفة التي كانت نهايتها عندما توفي بشير المشلول توفي بعد اسبوع سمير و(ذاكرة المكير ) وهي حكاية القصيدة الشعرية التي لحنت وغناها المطرب ياس خضر وتحكي حكاية فتاة تعمل بقطف ثمار التمر واحبها ابن الشيخ وتزوجها رغم فقر حالها وهي تعيل امها إلا انها تطلب منه ان ينفذ لها طلب وبما انه يحبها ومن صفات ابن الشيخ عندما يعد يفي فقد وعدها بتنفيذ الطلب مهما كان صعب عندها طلبت الطلاق لتعود الى احضان امها وقد ضمنها هذه الحكاية مع قصيدة ( المكير) مع اضفاء لمسات فنية إذ جعلها حكاية داخل حكاية وهذه الحكاية رويت من شيخ كبير لبطل النص الذي عاد من البصرة منكسراً لكون اهل حبيبته رفضوا زواجه منها وما يحسب لتلك الحكايات انها اقتبست لتكون حكاية داخل متن نص قصصي أي أنها ميتا قص وكانت تلك الحكايات في نهاية المجموعة ورغم طولها إلا انها كتبت بانسيابية ممتعة وبلغة سردية تنسجم وسياقها الفني كما إني لاحظت من خلال تحليلها بانها دونت بالاسلوب الصحيح لفن صناعة القصة القصيرة حيث إننا نعيش الاحداث فحسب لا وجود لأي تأثير او بصمة او اسقاط لذات القاص فيهنَّ. وعودة الى بداية تلك المجموعة حيث النصوص القصيرة جداً من اجل الوقوف على مدى تمكن القاص كريم صبح من اجادة هذا الجنس الصعب فنكتشف ذلك من خلال هذا النموذج من تلك النصوص وهو (ذاكرة الموتى)
إشترى خمسة آلاف دينار بكتابه الاقدس الذي حافظ عليه بين قطعتي قماش وراح يبحث عن ذاكرته وهو يزدرد لفة الفلافل ويطارد تنبؤات كتاب ابراج ابتاعه ببقية المبلغ. كان من مثقفي السبعينيات والكتاب الذي فرّط به أخيراً، قصة حياته التي ماتزال بائسة.
حيث نلاحظ حضور الادوات السردية لكتابة هذا الجنس. وفي رحلتنا من النصوص القصيرة فإننا نلاحظ هذا التنوع في الثيمات وفي قصة ( استنساخ) ينقلنا القاص الى مفارقة مبكية مضحكة حيث إن صديقين يتحدثان عن بيت فارغ سوف يبيتون فيه لسفر أهله إلا إن أحد اللصوص يسبقهم الى ذلك البيت والذي وجد خالياً من الأثاث فقد منحوا فرصة طيبة لهذا اللص لسرقته بكل ارتياح. وفي قصة (سيلفي) نكون في شارع المتنبي شارع الثقافة وحكاية أخرى من حكايات هذا الشارع ومفارقة اخرى. أما قصة (كذبة) فأنها حلمنا جميعاً (توقف بث الفضائيات بلغاتها جميعاً وبدأت فضائية جديدة بثها من أغان وأفلام وتقارير مفعمة بكلمات الحبر، حجبت الصحف جميعاً، وصدرت صحيفة جديدة مترعة بأخبار المحبة والسلم والتعايش بين الشعوب، طبعت مناهج جديدة للمدارس والكليات بمفردات الحب والتقارب بين شعوب الأرض) وهكذا يطوف بنا القاص بعد هذه الكذبة التي لايمكن لها أن تتحقق في ظل هذه الظروف المشوبة بالفوضى.
المجموعة القصصية (رأس للإيجار) للقاص كريم صبح تجربة مضافة الى تجاربه القصصية وهي تؤكد مدى تطور مسيرته الأدبية الإبداعية وانشغاله بالحياة بكل تقلباتها وتوظيف تلك التجارب التي يعيشها، يسمعها، يشاهدها، الى نصوص قصصية تحمل أفكارًا مهمة ووعيًا كبيرًا لمثقف يدخل هذا العالم بكل ثقة.