ما يحصل من تضخم لدور المرجعيات التقليدية وبنحو خاص الدينية والطائفية منها، يعود للأوضاع الاستثنائية التي مر بها العراق برفقة اعتى الأنظمة التوليتارية التي عرفها تاريخ المنطقة الحديث، عندما قضت سلطة الحزب الواحد و”القائد الضرورة” طوال أكثر من ثلاثة عقود على كل ما يمت بصلة للتعددية السياسية والفكرية والثقافية. لذا كان من الطبيعي وبعد استئصال ذلك الورم الخبيث عبر المشرط الخارجي؛ أن تلجأ الحشود التي لم تعرف تنظيماً وزعامات سوى ذلك الذي انتشل مذعورا من جحره الأخير؛ الى ملاذاتها التقليدية، وهذا ما حصل تماماً ربيع العام 2003، حيث بادرت تلك المرجعيات وعلى رأسها مرجعية النجف بزعامة السيد السيستاني لاستلام زمام المبادرة، مبادرة لاقت ترحيباً وتناغماً واسعاً من قبل جماعات الإسلام السياسي الشيعي، والتي فرضت تدريجياً هيمنتها على المشهد السياسي لعراق ما بعد التغيير، لنحصد برفقتها مشواراً مريراً من الإحباط والخيبات، أجبرت السيد السيستاني على غلق أبوابه أمام ممثلي هذه الطبقة السياسية، التي أدمنت على ممارسة التملق والتزلف لكل ما يصدر عن المرجع الأعلى للطائفة من إرشادات وبيانات، بما في ذلك البيانات والخطابات الموجهة لفسادهم وفشلهم كطبقة سياسية ألحقت أبلغ الأضرار بحاضر ومستقبل البلد.
البيان الأخير للسيد السيستاني والذي تلاه معتمده في خطبة الجمعة الماضية (4/5/2018) كشف بوضوح؛ عن حجم الحذلقة والتملق لدى غير القليل من ممثلي هذه الطبقة السياسية، وكذلك ضيق أفق البعض من مقاولي الاستثمار السياسي والآيديولوجي للدين والمذهب، من الذين أعابوا على السيد السيستاني عدم انحيازه الى جانب قوارضهم الشرهة ودكاكينهم السياسية البائسة. كما أشرت مراراً في مقالات سابقة، الى أن محنتنا تكمن في غياب المرجعية السياسية الرشيدة والواعية لحاجات وتحديات التحول صوب الديمقراطية وبناء مؤسسات الدولة الحديثة. هذا الخلل البنيوي هو من يقف خلف كل هذا التدافع لتوريط المرجعيات الدينية والعشائرية والتقليدية في معترك النشاط السياسي والحزبي. وفي العودة لمحطات من تاريخنا الحديث، يمكن التعرف الى موقف ودور المرجعيات السياسية والوطنية في حل مثل هذه الإشكالات، فالزعيم الوطني جعفر أبو التمن لم يقبل باقتراح المرجع الأعلى للشيعة آنذاك الشيخ كاشف الغطاء لقيادة الشيعة سياسياً، بالرغم من كونه من مقلدي المرجع الأعلى، لإدراكه العميق لآثار وتداعيات مثل ذلك القرار على حاضر ومستقبل الوطن. هكذا كان الأمر عندما كان للعراقيين مرجعياتهم السياسية الرصينة والمستقلة، والتي تعي مسؤولياتها وميدان عملها وواجباتها جيداً، على العكس مما آل اليه الحال مع هذه الطبقة السياسية الفاقدة لكل مستلزمات النشاط السياسي والاجتماعي، وعلى رأسها السيرة الذاتية والوعي العميق وروح الإيثار وخدمة الشأن العام.
ان غياب المرجعيات السياسية الرصينة عن المشهد العام لعراق ما قبل وبعد التغيير، قد ترك بصماته الواضحة على سير الأحداث والتي اتسمت غالباً باللبس والغموض وضياع المعايير، الذي شرع الأبواب لتسلل غير القليل من المغامرين والطائشين والطارئين لمثل هذه المجالات الحيوية في حياة المجتمعات والأمم. كما ان انتظار المدد من مرجعيات اخرى معنية بهموم واهتمامات لا علاقة لها بالشأن السياسي، لن يفضي لغير المزيد من التعقيد للميدان الأشد تأثيراً وفاعلية في رسم مصائر المجتمعات والدول، أي النشاط السياسي وشرطه الأساس (الغائب حالياً)؛ المرجعيات السياسية الرشيدة التي تكرس أفضل ما لديها لخدمة الشأن العام..
جمال جصاني
المرجعية الغائبة
التعليقات مغلقة