عبد الغفار العطوي
ما الفرق بين التاريخ و السرد ؟ كي نقرأ رواية زيد عمران (دكة مكة) و هي تقارب أحداثا في التاريخ العربي المعاصر (1950ـ 1975) بوجود الذات الساردة و المؤرخة ، السارد و هو في ذروة تورطه مع الخيال يتحرش بالتاريخ فالتاريخ يتلبسه و يفاجئه بين لحظة و لحظة (2) و نتوقع حدوث تشكيك و طعن من قبل السارد في التاريخ ، و هذه ما تحاول الروايات الحديثة ان تقوله لنا ، فهي تبدي الشك إزاء اشد المسلمات وضوحا و رسوخا (3) تقول ليندا هتشيون : التناصات مع التاريخ و الرواية التي تلبس حالة موازية ( و ان لم تكن مساوية ) لإعادة تهكمية من الماضي النصي لكل من العالم و الادب (4) لأن في هذه الرواية تاريخا بشعا يتناول نظاما بطريركيا اوتوقراطيا يفوق الانظمة المستبدة في القرون الوسطى من وجود هيمنة الحق الالهي و البلاط الملكي و ما يعني من نظام العبودية للمرأة و الرجل في تعتيم و سرية، لنجد ان اجواء هذه الرواية التي تشبه التاريخ الوسيط ،او تحمل في اعطافها مماثلة تاريخية تكشف عن تلاقي السرد و التاريخ في معارك فضائحية
1 – تعتبر من الروايات التي تحابي حقبة ما بعد الكولونيال تقريبا ، و ان كان الروائي لم يعمد الى هذا ، بل حاول ان يطرح تفاصيل سردية فاضحة لنظام في الجزيرة العربية شكلت عماد قيامه و ديمومته الرقابة الاستعمارية البريطانية ، إذ كانت قد نجحت بالتجسس على مفاصل الدولة و حركة الامراء و النظام العبودي من وجود الحواري و السراري و الخصيان و التعامل المروع الرهيب معهم ، و من الطريف ان السارد الموثوق به الذي فضح بشاعة ذلك النظام هو طبيب الامير ( قيصر بن عبد العزة بن سفود) جوني بن السير بيلفي الذي ظهر ساردا مرتين ، في (23) في لقائه بماكينزي في عطلة الميلاد في ضواحي لندن اوائل شهر يناير 1962 حيث كانت ترقد في المستشفى من آثار الاسيد الذي تعرض له وجهها و هي بطلة الرواية بلا منازع منذ ان اختطفت من اهلها في لبنان بعمر الثماني سنوات ، و دخلت مجاهل دولة الامير ، و الثانية في ( 25) حيث يختم السارد رؤيته من ( ساعة الصفر ) التي انتهت بإعدام الامير ماضي بن مساند ابن اخي الامير قيصر ( العبد جميل العراقي و زوج الاميرة فاطمة) الذي قام بقتل الامير ( قيصر ) و انتهت بحضور الطبيب السارد وقائع موت الاميرة فاطمة و اعترافها بالرواية التاريخية المزيفة ، و تمت عملية الفضح للتاريخ عن طريق السرد بينما اصر الكاتب الادعاء بأن الرواية مبنية على احداث حقيقية ، و احتال على تلك الحقيقة بالتلاعب بالأسماء ( أسماء ملوك آل سعود ) و هو يشمل إحراجا و صدمة لنا جميعا ، بتحولها الى سرد وقائع ما بين الخيال السردي و الحدث الواقعي ، و لولا دقة الوصف للمكان ( قصور الامراء و اقبية العبيد) و إدخال شخصية المسيحية ( ماكينزي )و اعتبارها العمود الفقري في صراع النظام العبودي الذي استخدمه حكم الامير مع الاستعمار البريطاني ( باعتبارها عبدة دكة) لتحولت الى مجرد سرد وقائع ، فمن أنقذها قيام السرد بمهمة فضح لعبة الواقع التاريخي التي اشترك في صياغتها الروائي و التاريخ
2 – كيف حدث ذلك؟ بإعطاء شرعية للشخصيات في تزييف الحقائق التي انطلت على بلاط الامراء و دفع صورهم الخلفية الى فضاء القتل و المؤامرات و صنع نظام للعبيد تحت انظار الامراء لكن باطلاع الاستعمار المدروس و تجنيد السفير البريطاني ( جورج تيلهام ) لمسيحية و آلام و قداسة و عهر جسد و يسوعية و بالتالي إلحادية (دكة) التي صدق الكاتب عندما اهداها عتبة ( الى ماكينزي التي لا يعرفها احد) و لم يشار الى دكتها ( دكة الحرم المكي ) أو يحقق فيها ان كانت حقيقة ام محض اختلاق ، و لقد حفل التاريخ المعاصر للجزيرة بالكثير من المساجلات ، إلا ان السرد نكل ببعض الوقائع التي تسربت الى عالم الروايات ، و كان من المفترض ان يفعل العكس ، أن يكون أكثر جرأة و تطوعا ، لكن الذات التي تسرد غيرها التي تؤرخ ، الروائي خيميائي على وفق طريقته الخاصة كما يقول سعد محمد رحيم و فضيلته انه يسعى و مادته لغته و اسلوبه و خياله و تجربته بتفاصيلها الخ (5) بينما المؤرخ يختلف ، لهذا ثمة إنتزاعات و تنكيلات بينهما.
إحالات
1 – دكة مكة رواية زيد عمران الناشر جيكور و الاهلية البصرة بيروت الطبعة الاولى 2018
2 – السرد ينكل بالتاريخ وتابة السيرة و انتهاك الواقع سعد محمد رحيم دار نينوى 2017 ص 47
3 – المصدر نفسه ص 135
4 – جماليات ما وراء القص دراسات في رواية ما بعد الحداثة مجموعة مؤلفين المترجمة اماني ابو رحمة دار نينوى الطبعة الاولى ص 94
5 – السرد ينكل بالتاريخ مصدر سابق ص 9 مدخل