ابتسام يوسف الطاهر
ابراهيم عيسى اكثر كاتب تعرض للتهم اثر صدور روايته (مولانا)، من تلك التهم، انه يخدم السلطة بامتصاص الغضب عليها! مع انه اكثر من انتقد السلطة.. واتهم بأنه ينتقص من الشعب المصري.. واتهم ايضا انه يسعى لتسليط الاضواء من خلال تجاوزه الخطوط الحمراء والكتابة بما يختلف معه الجميع. واخر التهم انه (شيعي)! )، في زمن صار الدين تجارة اخطر من تجارة المخدرات، فبعد انتشار السلفية وجرائم داعش وعصابات القاعدة (السنية) صارت الشيعة تهمة وسبة. فكتب مقالا يبعد عنه تهمة التشيع..مع ان الانتماء الطائفي أمرا شخصيا.
حين قرأت مولانا لم يكن في ذهني ابراهيم عيسى الصحفي..وهذا كان في صالح الرواية حيث قرأتها بحيادية. فكم نحتاج للحيادية في قراءتنا والا فاننا سنوشح كل الصفحات بصورة الكاتب ورأينا فيه شخصيا وسياسيا او ادبيا. فكم من كاتب وكاتبة تنال كتاباتهم الاعجاب قبل التعرف عليهم شخصيا، ولكن بمعرفة انه ابن حارتهم او زميلا لهم، لم تكن له شعبية، حتى يصبح كل مايكتبه عرضة للرفض والسخرية ربما!
لكن ابراهيم عيسى الجريء في طرح اراءه ونقده العلمي الساخر لظواهر انتشرت في زمن العولمة والاسلام الامريكي، أضفى اعجابا اخر بروايته (مولانا). بالرغم من انه لم يقدر على نزع جبة الصحفي المشاكس وهو يكتب الرواية، لكنه تمكن من تطويع القالب الروائي ليصب فيه افكاره الفلسفية والدينية بسلاسة ومتعة. فعالج معظم اسئلتنا منها سبب تخلف الدول المسلمة وتقدم غيرها، فقد اظهر الكاتب علما وثقافة وتعمق في الدين. فالدين لاعلاقة له بتخلف او تطور الدول. فاوربا لم تتقدم الا بعد ابعاد الدين عن شؤون الدنيا.
منذ الصفحات الاولى حرص الكاتب ان يجعل من المفتي او الداعية، بشر، وقح وطريف، ضعيف عاطفي، ومادي ليكون اقرب للناس. لكنه في مكان عميق من ضميره اراد ان يخدش صورة الشيخ التي تلتقطها عيون الناس وعدسات الكاميرا، ص9
يؤنبه ابوه «ان لم تكن شيخ، فماذا تكون؟ انت تحفظ القرآن وتتلوه وتؤم الصلاة وتخطب بالناس وتفتي ولك ذخيرة من قصص السيرة تضعك في مصاف الشيوخ بل نجاحك مع الناس يجعلك في مقدمتهم» فيجيبه «وهل هذا يبقى شيخا..هذا موظف بدرجة شيخ..انا تاجر علم».
تأثير الاعلام والتلفزيون خلق جيلا من مخادعين وازدواجيين. فالمذيع، مخبر، وصاحب المحطة يعمل لصالح منظمات سياسية وارهابية.. بل حتى ذوي العلم والثقافة يبدون امام الكاميرا، الضوء الاحمر، بغير ماهم عليه. «هو الضوء الذي حين يظهر يفجر تلك القدرة الكامنة على التلوّن فيبدو الانبساط رغم الضيق، الجدية رغم التهتك، الوقار رغم المسخرة»ص12
نجح الكاتب والصحفي في شد القاريء. باسلوب تداخل الصور والاحداث فهو كمن يمنحك طرف الخيط لتسحبه فتتوالى الالوان وكل منها يشوقك لما يأتي بعد. نشعر مع البطل حاتم الشناوي بوقع السؤال اللكمة كما يسميه، لندخل دهاليز حياته اليومية وعلاقته بابنه المريض. فنعرف لماذا كان السؤال (لَكْمة). فهناك اذرع كثيرة تتحرك خلف الكواليس كل منها يسعى لتوجيه مثل تلك اللكمات لمن يعري جهلهم ويحاول قدر المستطاع ان لايكذب ولا ينطق بالباطل. بالرغم من حرصه ان يقول مايرضي اولي الامر. فهو يعترف بازدواجيته حين يستفيض بالشرح والنقد للاحاديث الغير منطقية، لزوجته او بعيدا عن اضواء التلفزيون، حتى لو نقلت عن البخاري فالبخاري ليس نبيا، منها الاحاديث التي تؤيد عدم وجود حكم الردة كما يدعي البعض المتأسلم حديثا «وبدل من لكم دينكم ولي ديني. اصبح الشعر لي دينا وحطلع دينكم» ص348-336.
يعترف لزوجته التي تعاتبه لماذا لا يقول ذلك في برنامجه التلفزيوني، يرد عليها «كي نجلس في هذه الجنينة، وعمر ابننا يتعالج في اوربا ..وعندنا سواقين وسفرجية ونستظيف حسن-بطرس، ويقابلنا زوج اخته حاكم البلد الفعلي..ثم سطح الدين له جمهور وممولون..انما عمقه وجوهره، فلا يفهمه احد ولا يموله احد».
«ترويض الجهل افضل من مصادمته» فمخططي المباحث يلعبون على عقل غير منشغل بالبحث عن الحقيقة..بل على غريزة جمهور شغوف بالفضائحية ومهيأ لقبول الطعن في الناس»..لكنه كثير ما يرفض المداهنة في الامور الغير منطقية ولا ينفع معها تلاعب بالالفاظ. فيرفض بشكل قاطع التطرق لموضوع عذاب القبر كما اقترح المخرج «الا هذه..لو هناك عذاب قبر يعني هناك حياة ثالثة غير الدنيا والاخرة..وهناك يومان للحساب..وهذا مخالف للعقيدة والدين والعقل. ليس هناك عذاب جزئي، بالقطاعي..خذ شوية عذاب بالقبر ونتحاسب بعدين..هذا فيه تجني على رب العالمين ويصف الله عز وجل بالظلم والعياذ بالله» ص 460
لم يكن الكاتب هو الراوي فحسب، بل كان ضمير البطل حاتم الشناوي، يحاسبه ويؤنبه ويفضح ضعفه امام الشهرة والمال، ويتعاطف معه ويبرر ازدواجيته، ويقيّم صراحته، بأنه ليس رجل دين بل تاجر يحادث زبائن ويزدرد الحقيقة بصعوبة ويحمد الله انه لم يلجأ للكذب. فيقول مايرضي المنتج وراعي البرنامج، اما رضا الله فهو من وراء القصد..يكره نفسه في تلك اللحظات –لحظات تشغيل الفم..ص269.
بالرغم من الازدواجية التي تعذبه ومداهنة السلطة وممولي البرامج. مع ذلك يعتقلوه ليذلوه، ويسلبونه صديقه الوحيد مختار الحسيني، حفيد النبي الذي يدعون اتباع سنته! ويدعونه السجن. وكذبوا عليه بانهم اطلقوا سراح الحسيني، لكنه يفاجأ فيما بعد بأنهم قتلوه تعذيبا في اقبية السجن.
يسلطون عليه ممثلة فاشلة تدعي الاسلام وتلعب على عواطفه لتسرق منه الامانة التي يودعها مختار لديه. بل ويسلطون عليه ابنهم حسن الذي يدعي التنصر ويسمي نفسه بطرس، فياخذه لبيته ليشرح له الدين فهو يذكّر الشاب الغر بأنه لا يعرف من المسيحية والاسلام سوى القشور، فلا دين افضل من الاخر «..لاتعيريني ولا اعيرك ..الهم طايلني وطايلك». وفي حواره مع شباب متنصرين «ربما الاديان كلها مقلب كبير محصل بعضه» ص200-205
في النهاية يفاجأ بالمتنصر يرتكب جريمة ارهابية ضد الاقباط، فيقتل الكثير من الابرياء حتى الذين وثقوا فيه واعتقدوه صادقا في تدينه.
اعتماد الكاتب لغة تتداخل فيها اللهجة المصرية، لم يقلل من بلاغة اللغة الادبية المتمكنة من ادواتها برسم صور مكثفة «كان قد تبدد فرقا وتفرق بددا.. يلم اعصابه من على الارض وفوق الاريكة وتحت المائدة يجمع اسلاك جهازه العصبي حتى تتركب توصيلات الفهم والاستيعاب في لوحة التحكم العقلي..هذه مصيبة وحلت عليك ياحاتم» ص140
يصوغ الكاتب الاحداث لواقع مرير كشفته الثورة المعلوماتية، كصائغ محترف يعيد صياغة الواقع بمافيه من مرارة وقسوة. بلغة ساخرة ليدين السلطة واخطبوط المباحث والضعف والاستسلام. فحاتم الشناوي ضعيف امام الشهرة والمال لكنه يتقوى بالعلم وبالسخرية التي يجيدها المصريون.
هناك فضح تواطيء بعض افراد السلطة وجهازها الامني مع الارهاب الجديد، الارهاب الاسلامي ظهر منذ رعت امريكا الجهاد في افغانستان ودربت قطعان مايسمى بالمجاهدين بقيادة وهابي السعودية. فالجميع متدينون بلا دين. والمسيحية ليست مضطهدة كما يدعون، فالمسيحيون حكام العالم يدمرونه ولا يعملون ذرة من تعاليم المسيح. المضطهدين هم الفقراء أقباطا ومسلمين. اغنياء الطرفين فاسدون، فالبلد مقسومة الى اغنياء وفقراء والمصلحة تقوم على ضرب الفقراء في بعض ص155