طارق إمام
تنهض المجموعة الشعرية «ثلاثون بحرًا للغرق» لقاسم حداد، (منشورات المتوسط، ميلانو)، على اشتغالٍ شعري جوهره إرجاء الدلالة. العالم هنا يرتد إلى الدوال لتُعيد إنتاجه وفق واقعٍ شعري لا يحيل للواقع الخارجي قدر ما يحلُّ فيه. لذا تجري، على مهل، زحزحةٌ دائبة للمرجع باعتباره وجهةً جاهزة، بغية خلق مرجع جديد لا يمكن العثور عليه بمعزل عن علاقات الخطاب الشعري.
لغةٌ معنيةٌ بنفسها دون مواربة، حيث دوالٌ ملتفتة لنشاطها اللغوي، تعيدُ رد المعنى خارجها لكن بمعزل عن أفق دلالي جاهز، قائم سلفًا ولا ينتظر سوى فض الدوال وجسرها به. حتى وهي تلامس أحيانًا تخوم اللغة التواصلية، فإن اللغة الشعرية في «ثلاثون بحرًا للغرق» تظل محتفظةً بكثافتها الاستعارية التي تجعلها تحيل إلى الواقع الشعري، لذلك تستعصي «ثلاثون بحرًا للغرق» على التلقِّي وفق قراءةٍ إحالية: «تحت عينين غامضتين/ تهجَّيتُ غيمًا صديقًا،/ شُرفتان على جنة الله/ تاريخُنا المستثار/ وأرجوحةٌ في انكسار الهواء،/ عينان تستعصيان على النص/ مبذولتان لتأويلنا/ ومنذورتان لماءٍ ونار/ كأن الغناء».
بقراءةٍ كلية، يتضح التشييد التشكيلي الواضح، حيثُ توزيعٌ دقيقٌ للكُتل وقد صارت مادتها اللغة، في سياقٍ أقرب للتجريد يتطلب قراءة «تأويلية»، واتكاءٍ على اللون (قصيدة مثل «ثلاثون بحرًا للغرق» تنهض بأكملها على اختبار الزرقة كدالٍ يحيل مباشرةً للبصري). هناك أيضًا اختبارٌ دائبٌ، قادمٌ من بنية التشكيل، لمراوحات الضوء والظل، بتجريبٍ لا يمل التلاعب بالدّالين ومن ثم الأفق التشكيلي الذي يصنعانه بتزاوجهما.
بحرٌ هجين
تستعين الذات الشاعرة على إنشاء إيقاعها (شكلانيًا) ورؤيتها (دلاليًا)، معًا، باشتغال جوهري: إذابة الثنائيات.
يزيل «ثلاثون بحرًا للغرق» الحاجز الصلد بين القصيدة التفعيلية وقصيدة النثر، ليس فقط بوصفهما شكلين متخاصمين، بل كطريقتين في رؤية العالم والعثور على «إيقاعه». يحفل الخطابُ الشعري بعناقٍ بين الشكلين، وبانتقالٍ سلسٍ بين الشكلين دون تقسيم (الضوء والظل مجددًا). من هذا التراوح في الحقيقة، يتشكل الإيقاع الأشمل للكتاب أو «بحره» الخاص، بحره الهجين القادم من تزاوج الإيقاع الخارجي بنظيره الداخلي. بل إن هذا العناق يصل إلى حده الأقصى شكلانيًا، حين تتحقق إحدى القصائد التفعيلية «الكأسُ في الرأس» بصفٍ طباعي يدير ظهره للتقطيع الشعري المتعارف لقصيدة التفعيلة، مستعيرًا الشكل الأكثر راديكالية في الصف الطباعي لقصيدة النثر، عندما تتصل السطور كأننا حيال نصٍ غير شعري: «تُرى كيف يُصبحُ هذا التراثُ الجميل اختلاجًا؟ نسيتَ/ تشهيتَ أن تكتب النخل في غفلةٍ/ هل نسيتَ؟/ لقد كنت تسأل عن صخرةٍ في الجبل/ نحتت ليلها في ذراعيكَ». العلاماتُ المائلة هنا من صُنع الشاعر، تعمل كفواصل أو وقفات إيقاعية عوضًا عن التقطيع، بحيث يمكن رد السطور الشعرية إلى ترتيبها الأليف إذا ما استُبعدت.
وجهُ الأنا في
قناع الآخر
بقدر ما يذيب الخطابُ الشعري الثنائية الجاهزة بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة فإنه، وبالقوة نفسها، يحفر بمعولٍ قاسٍ في ثنائية أخرى هي الوجه والقناع. يراوح حداد، مجددًا، بين الوجه والقناع، تلك الثنائية الشهيرة التي وسمت القصيدة العربية وبقيت قائمة على ما عبر النص الشعري من تحوُّلات. غير أن الذات الشاعرة هنا تقلب العلاقة الاتفاقية، فهي تستعير أقنعة ذوات أخرى (لها تمثُّلها خارج النص) لتقرأ وجهها كـ»أنا»، في قلبٍ فادح لشكل العلاقة المُتعارف، عندما كان الشاعر يزيح وجهه لينهض كصوتٍ شعري عبر القناع.
إحدى عشرة قصيدة من بين تسع وعشرين، تعقب عناوينها أسماء حظيت بوجودٍ تجريبي، تبدأ من «طرفة بن العبد» وصولًا إلى «أمينة» حفيدة الشاعر. بين القوسين يهطل رهط أسماء (عبد الرحمن النعيمي، موزه خليفة الشملان، عبد القادر عقيل، أمين صالح وغيرها). أسماءٌ تُهدىَ لها القصائد أو تحييها، واضعةً المتلقي في مفارقة قرائية بين الاسم «الحقيقي» وتمثله «الشعري». قصائدُ يكتبها ضمير المُخاطب، فالاسم المستعاد هو ذاته المتلقي الأقرب، والنص الشعري أشبه برسالةٍ/ شفرة بين الذاتين: «لا أحد،/ لا أنت في عتمة النص/ ولا فهرسٌ في كتابٍ/ ولا فضةٌ ذائبة/ هل أنت ما تبقَّى من الكون؟/ ليتَ الذي يرسمُ القوسَ لي/ يبتلي بالضروري مما تبقى من المسألة/ ليته يدرك،/ أو يتدارك، حكمتنا المائلة/ ليته،/ وهو يُمعن هندسةً في المُحالين للموت،/ يُصغي لهذا الأنين،/ ليته يكشفُ الكائنَ الأوَّلي/ ومن أوّله/ ويشرح للمؤمنين به».
عبر الذوات/ الأقنعة المُخاطَبة، يتكشف صوت الشاعر في نص هو بطله الحقيقي، يختبر مرةً تلو الأخرى الفاصل الزمني بين كونه لاحق على أحد الأسلاف (طرفة بن العبد) أو مجايل، أو سابق وقد صار هو نفسه واحدًا من الأسلاف لذاتٍ لاحقة، نابعةٍ من صلبه: «ساقُكَ،/ سباقك الخفي في السفر والإقامة./ لا تدعها تنكسر وحدها/ لا تخذلها، فينالك الخذلان الأعظم،/ كأنها القصبة التي منحتها لك الآلهة، لأجل السعي بها نحو الموسيقى الذهبية للحياة». هنا يتحولُ المُخاطب من «أمينة» (الحفيدة في قصيدة «لا تدعها تنكسر») إلى الذات الشاعرة نفسها، التي تُصبح المخاطِب (بكسر الباء) والمخاطَب (بفتحها) معًا، متموقعةً في المسافة بين صاحب الصوت ومتلقيه وكأنها عالقةٌ بين ذاتين.
هنا، لا ترتدي الذاتُ الشاعرة قناعًا كمنصة لقصيدتها الغنائية، بل تذهب للأقنعة (كأنها مراياها) لتنظر عبرها إلى وجهها المنعكس على صفحة، أقرب لصفحة ماء، غير أنها معتمة، إعتام الدلالة الشعرية نفسها، التي تتألبُ على نصوع دلالة الصوت الغنائي وهو يصغي لنوح أناه، لتُكثِّر الدلالات المحتملة، في تأكيدٍ لموقع الذات الشاعرة على هامش الوجود، حيث لا تملك هذه الذات ما يجعلها، ولو للحظة، في قلب العالم.
حيث النفيُ هو الإقامة
الذات الشاعرة في «ثلاثون بحرًا للغرق» متنقِّلة وعابرة. تدعم ذلك أمكنة القصائد. ثمة الأمكنة الملتبسة نصيًا بين وجودها الشعري ووجودها الحقيقي (مثل «حانة الذئب»، التي تقاربها إحدى القصائد، مدعومة بهامش تعريفي: حانة قديمة في شارع ستورك وينكل في برلين، بالقرب من بيت الشاعر عام 2008). بيت الشاعر عام 2008، تأكيد على الوقتية وأنه ليس ثمة من بيتٍ دائمٍ، وبالتالي ليس ثمة مكان ثابت يطل الشاعر من نافذته على العالم. في قصيدةٍ أخرى، هي «ثلاثون بحرًا للغرق» التي حملت المجموعةُ عنوانها، يُشار إلى مكان كتابة النص «بيت هاينرش بول- ألمانيا- شتاء 2013». إنها إحالةً أخرى (إذا ما تعاملنا مع الهامش كتوضيحٍ مقصود وكاتصالٍ عضوي بالمتن وليس هامشًا خارج القراءة الشعرية) لاغترابٍ آخر، حيث الذات الشاعرة في مكانٍ يخص كاتبًا آخر، يخص وجودًا وسمته المغادرة، مكان استعارته الذاتُ كبيتٍ مؤقت، بيت «غرضي» الهدف منه هو الكتابة وليس الإقامة.
مع البيت، يطرأ التحذير، فبيت «الضيف» لا يقبل ضيوفًا، ذلك أن من لا يملك، لا يملك حق أن يستضيف، وحيث لا يمكن لجسد أن يدخل البيت سوى بتحرره من جسدانيته: «يطرقون البابَ والنوافذَ/ لا تفتح لهُم،/ إن كانوا ضيوفًا مبعوثينَ/ أو أدِلاء، طاش الوجدُ بهم/ وفاضت بهم أحلامُ الناس/ سوف يعرفون كيف يدلفون البيتَ/ برفق الأطياف، ورهافة الحلم/ لا تفتح لهم،/ لا يدخلون من بابٍ، ولا نافذة».
هل هو هجاءٌ للحدود بوصفها جذر التمحور حول الأنا وباذرة الشوفينيات وقرين اليقينية والنظرة الثبوتية للعالم؟ هل هو مديح الترحل والتنقل وكأن مكان الشاعر الوحيد هو اللامكان؟ ربما ينثر الخطابُ الشعري مزقًا من هذا الانحياز، فالإقامة تليق بكل سلطة، والنفي يجب أن يكون خيار كل شاعر. البحر، والصحراء، والسماء والغابة: آفاق مخاصمةٌ للحدود، كلها قرائن للوجود الطبيعي الأسبق على المعمار الثقافي والمكان بوصفه علامة لا وجودًا طبيعيًا. كلها عدوة الخرائط حتى وإن جهدت لترسيمها.
سيحل «الخارج» دائمًا محل «الداخل»، وحيث «مفترق الطرق» جذرٌ أساسي يمسك برؤية الشاعر وبموقفه من كل ما يعلق به من العالم، الطبيعة والحب والوجود إجمالًا: «قلبي بمفترق الطريق/ ووحشةُ الغابات تحرسني/ أضيعُ موزعًا/ شغفًا بقلب حبيبتي/ ودفاتر الأشجار أسمائي هنا/ والثلج في الخارج». «الريح» أيضًا دالٌ لا يكف عن الحضور. إنها أيضًا دالٌ فادح في إحالته لفكرة العبور، واستحالة المكوث والاستعصاء على التجسد، فالريح لا شكل لها.
«ثلاثون بحرًا للغرق» كتابٌ كانت تنقصه قصيدة واحدة ليصبح عددُ القصائد بعدد بِحار العنوان الكبير. قصيدةٌ أُرجِئت، ربما، ليصبح البحثُ عنها هو حضورها النهائي، وربما هي القصيدة الشاغرة التي تنتظر أن يملأها كل من يقرأ، أن يكتبها المتلقِّي، ليشيَّد قصيدته.