يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 16
حوارات مع جرجيس فتح الله*
س : كيف كانت النهاية؟
ادركتني موجة الارهاب العظيم الذي اجتاح الموصل . وهو المعروف بفترة الاغتيالات . وقد افردت له فصلا خاصا في الجزء الثاني من كتابي (العراق في عهد قاسم ) فضلا عن ملاحقة السلطات القاسمية . فاضطررت الى ترك المدينة والانتقال مع الاسرة الى بغداد , ولم يكن بالامكان قانونا ولا عملا نقل الجريدة واصدارها في العاصمة . وبهذا كانت نهايتها . واصدقك القول اني دفعت الثمن الغالي لقاء اعتدائي على بكارة الموصل العربية بوقاحتي واجتراحي الجريمة الكبرى في اصدار جريدة كوردية فيها.
س:قد يكون من المفيد أن تذكر شيئا عن الظروف التي حملت الاستاذ صالح اليوسفي على تفضيل البقاء في العراق . والنهاية المؤسفة التي ال اليها بحكم صلتك الوثيقة به .
هناك امور يصعب تفسيرها وتعليلها في احوال كهذه –حين تدعو ازمة فكرية حادة – الى اتخاذ قرار مصيري . فهذا الانسان وطني مناضل عنيد اوقف حياته لخدمة وطنه وادرك تماما حجم اعداء اماني شعبه . تراه فجأة وقد حطمت الكارثة معنوياته وهدت كيانه الروحي وافقدته الثقة بالزعامة التي اخلص لها بتجرد وتفان . هكذا وجدته عند لقائي الاخير له اذ قال لي بلهجة يتجلى فيها اليأس:” كاكا اني تعبت ولم تعد لي طاقة وسأعود الى الاهل. ارسلت(مام عبد الله) الى العقيد قائد حامية رواندوز لاعلمه بأني سأسلم نفسي وليكن ما يكون . اني تعبان وبحاجة الى الراحة وقد جئت لوداعك وربما لن نلتقي مرة اخرى ” . لم اعرف من هو (مام عبد اللة) هذا .
لم يحاول اغرائي بالانضمام اليه . ولم احاول من جهتي اقناعه بسلوك سبيل اخر . فقد وجدت فيه العزم والتصميم . ولا ادري هل قام بتوديع الاخرين كما فعل معي؟
قال هذا وخرج وكان اخر عهدي به.
من منجزات السجن القلمية
س:لدينا استيضاحان حول نقطتين وردتنا في الحوار السابق . بعض القراء المتتبعين لهذه السلسلة من الحوار يهتمون بجلائهما . وقد يكون من المفيد أن نحيد قليلا عن المنهاج فنسأل أولا عن الكتب التي قمتم بترجمتها في اثناء فترة السجن وفي أجوائه وماذا آل اليه امرها؟
بعض هذه الكتب وجد سبيله الى النشر . وبعضها ما زال مخطوطا مع حظ كبير لها لتجد سبيلها الى ايدي القراء . وحظي اكبر لو تم ذلك لي وانا حي . فطبع كتاب لكتاب اشبه بولادة طفل مرتقب .
من الطائفى الاولى هناك كتاب ” مهد البشرية – الحياة في شرق كوردستان ” صدرت طبعته الاولى في العام 1970 ضمن سلسلة “كتاب التاخي”. واعيد طبعه في شيكاغو بالولايات المتحدة في العام 1997 وستضع دار ئاراس هنا في اربيل طبعته الثالثة بعد ايام في ايدي القراء . وهناك كتاب “كرد وترك وعرب “وكان ضمن سلسلة “التاخي” تم طبعه في 1970 . واصدرت دار ئاراس طبعته الثانية في 1999 . وكتاب جمهورية “مهاباد” اكملت التعليقات عليه في بيروت وتولت طبعه هناك “دار الطليعة” في العام 1973 واعيد طبعه في اربيل في 1999 . واخيرا هناك كتاب “طريق في كردستان ” وهو اخر سلسلة كتب “التاخي” وقد طبع في بغداد 1971 واعادت دار ئاراس طبعه ضمن مجموعة الكتب الستة التي قامت بنشرها لي.
اما المخطوطات فهي كثار . واولها الموسوعة التاريخية العظيمة للمؤرخ “بلوتارخ” . المعروفة بأسم “سير العظماء” وتعد ضمن اهم واشهر كتب عشرة في العالم . تقع المخطوطة في حدود اربعة الاف صحيفة بخط يدي . وقد زودتها بعد خروجي بشروح وتعليقات ضافية ان هذا الكتاب المرجعي ليس ميسورات باللغة العربية رغم حاجة الباحثين والمؤرخين والكتاب في بلاد الشرق الادنى اليه مرجعا لا يستغنى عنه . وكانت فكرة ترجمته والتعليق عليه قد جاءتني عندما اعلنت منظمة اليونسكو عن مشروعها المعروف بمشروع الالف كتاب الذي يقضي بتكليف العلماء والباحثين المعروفين بترجمة الف كتاب هام من اللغات الاوروبية الى اللغة العربية . اشعرت المنظمة في حينه (ربما في العام 1957) بنيتي في نقل الكتاب وحصلت الموافقة . الا ان المشروع مات بعد اصدار عدد قليل من الكتب لافتقار المنظمة الى المال . وهكذا وجدتني ابدأ فيه وانا في السجن . وكاد يكون كاملا خلا بعض التعليقات عندما حملته معي الى كوردستان بمناسبة زيارتي في 1999 و واستودعته السيد نيجيرفان البارزاني خشية الضياع . ان طباعة هذه الموسوعة التاريخية الضخمة في اقليم كوردستان العراقية لو قيض لها ذلك فأنها تمثل صفحة باهرة من النهضة العلمية التي اراها الان واضحة .كما انه سيسدي خدمة كبيرة للباحثين والمؤرخين العرب وللغة الضاد نفسها . كانت”دار الحياة للنشر ” في بيروت قد تعاقدت معي في العام 1973 على اصداره بأجزاء ز الا ان موانع قاهرة تتعلق بأقامتي هناك حالت دون ذلك . وبقيت المخطوطة الوحيدة منه في حوزة الدار عندما ارغمت على ترك لبنان الى غير رجعة فتركته عند الناشر وخيل لي اني فقدته الى الابد ونفضت يدي من جهد كلفني سنوات عديدة . سيما بعد اندلاع الحرب الاهلية . الا انه عاد الي كاملا غير منقوص بعد عشر سنوات زانا في ايران وبظروف ومصادفات اشبه معجزة .
هناك ايضا كتاب “وليم شايرر ” الموسوم “قيام وسقوط الرايخ الثالث ” الذي يقص قصة النازية وحروبها بتفاصيل لا تجدها في اي من كتب التاريخ التي الفت عن تلك الفترة المظلمة من حياة البشرية ويقع في حدود ثلاثة الاف صحيفة بخط يدي . وقد ترجم الى اكثر من تسعين لغة . كان قد طبع ملخص له في لبنان بحسب علمي . واضنه يعد للطبع هنا الان من قبل دار ئاراس .
ومما نجا من الضياع ترجمتي للمذكرات الشخصية للفنان الايطالي الكبير “بنفنوتو جلليني”. من عصر النهضة (الرينيسانس ) وهي باجماع مشاهير النقاد والادباء الكبار اشهر مذكرات شخصية في العالم واقدمها – يدونها فنان عظيم الشهرة عن نفسه اثاره الفنية تزين متاحف الغرب الشهيرة –بلغ من قدرها ان مترجمها الى الالمانية لم يكن غير الشاعر والاديب العظيم “غوته” ومخطوطاتها تقع في حدود ستمائة صحيفة . وقد انبأني احد الاصدقاء المهتمين ان واحدة من دور النشر في القاهرة تفاوض في نشرها .
كما اني بدأت في كتابة مؤلفي الكبير حول”القومية العربية” هناك وبقيت مواصلا الكتابة فيه طوال اكثر من اربعين عاما متتبعا المسيرة الصعبة لها بين رفع وخفض . وقد تم تسجيل اكثر من (1200) صحيفة فيه بالكومبيوتر وانا في دور اعداده للنشر . وقد يتجاوز عدد صفحاته الالفين.
هناك كتب اخرى نقلتها خلال تلك الفترة بعضها ضاع وبعضها موجود. واريد ان اقف عند هذا الحد . وكل ما اخشاه ان يعد القراء ذكر هذا مني تبجحا ومباهاة . او هو وسيلة للداعية والاعلان عن بضاعة بائرة . فها اني سئلت وهذا جوابي .
س: لكن يبدو من هذا الحجم الكبير أنكم كنتم تنعمون بحرية واسعة وربما بامتياز خاص يتيح لكم إنجاز كل هذا دون عائق او ربما بتشجيع ؟
كلا ابدا . فلا هذا ولا ذاك , كان حالي حال نزلاء السجن الاخرين بدون تمييز . والفرق هو في السياسة العامة التي سارت عليها الحكومات في معاملة ضحايا الثامن من شباط بعد غياب البعث الحاكم عن الصورة . فقد بدات النفوس الجائشة تنزع الى الاسترخاء . او ربما الملل من الايغال في اشباع احط الغرائز البشرية اذ راحت تخبو بالتدريج نار الاحقاد التي اججها حكم عبد الكريم قاسم . واستوفى اهل الثارات والمنتقمون حظهم من الدماء التي سالت بعده وقد بلغ طلابها حد التخمة والشبع من كثيرة ما جزروا وعلقوا وزجوا في السجون . ثم حلت فترة اثر ذلك فيها انشغل ورثة الحكم وارباب السياسة عن الضحايا بالاحتراب فيما بينهم على المفاهيم والمبادئ كما زعموا, وقد ملكتهم حمى الاستئثار بالسلطة عن طريق التآمر الخفي المحموم والعلني احيانا –بعضهم ضد بعض-. فترك سجناء العقيدة وضحايا الانظمة لشأنهم وهم في حرز حريز داخل اقفاصهم ينظمون حياتهم ما شاؤوا ضمن الحدود التي رسمتها قوانين السجون وربما بالتراخي في تطبيقها .وقد عادت اليها سيطرة موظفين مسلكيين بعيدي النظر خبراء في تقلبات الحظوظ السياسية حريصين على مستقبلهم و”لقمة العيش “- كما يقولون – من خلال تلك الاعاصير الجبارة التي عصفت بمقدرات البلاد . . فلكم وجدوا سجينا خامل الذكر يخرج فورا ليتبوأ كرسي وزارة . ولكم دخل قائد كبير من المؤسسة العسكرية ليحل محل السجين الاخر؟ هكذا ترى ان الظروف السياسية وحدها كانت العامل في توفير الحرية النسبية التي مكنتني من انجاز كل هذا .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012