د. أحمد عدنان الميالي *
يتجه القطاع الخاص في أغلب دول العالم ليكون بديلا عن الدولة مما يؤشر انهيار قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها وإنجاز المهمات الكبرى كالبنى التحتية وتقديم الخدمات العامة، بل بدأت الدول تتجه صوب التخلي عن دورها في الكثير من الأعباء الأساسية والثانوية، فمثلا قد يكون من الطبيعي أن نرى الشركات الكبرى في الأنظمة الرأسمالية الكبرى تستحوذ على اقتصاديات تلك الدول، لكن بدأ الحال يتجه نحو الدول التي لا تتبنى نظاما رأسماليا بما يسمح للقطاع الخاص الهيمنة ويضع دور الدولة في الخلف، مع أن دور الشركات الكبرى وخاصة الشركات المتعددة الجنسيات حتى في الدول الرأسمالية الكبرى كالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بدأت ترث دور تلك الدول في تمويل المشاريع وتنفيذها بنحو ملفت، فتلك الشركات تسلح الجيوش وتصدر السلاح لبيعه لدول العالم وبدأت تتولى مهام الدولة في بناء شبكة الطرق والجسور وحفر الأنفاق وسكك الحديد والمترو وبناء المطارات ومسك مجال الاتصالات وعالم البرمجيات والإلكترونيات، إضافة إلى شركات الدواء، بل وصل الحال أن وكالة ناسا وهي وكالة أميركية مختصة بشؤون الفضاء لم تعد تمتلك القدرة المالية لاستكمال بحوث استكشاف الفضاء وستضطر إلى إشراك القطاع الخاص في تمويل تلك الالتزامات والأبحاث في السنوات المقبلة، وكذلك أدخلت روسيا القطاع الخاص إلى مجال الخدمات الفضائية منذ عام ٢٠١٥ لذات الأسباب.
الصين وهي دولة اشتراكية ونظامها السياسي شيوعي يؤمن بهيمنة الدولة على المجال العام بدأت تعتمد في الكثير من القطاعات على الشركات غير المملوكة للدولة مثل الصناعات التحويلية والخدمات والتعليم.
في إيران أيضا هنالك دعوة لإشراك القطاع الخاص في صناعة السيارات وخصخصة قطاعات خدمية أخرى كما دعا الرئيس روحاني إلى التخلي عن جزء من الأصول المالية والاقتصادية للدولة لصالح القطاع الخاص. برغم أن هذا القطاع يستثمر في إيران فقط بمجال الطاقة مشاريع بقيمة ١٣ مليار دولار.
في العراق نلحظ توجها كبيرا نحو الاستثمار والخصخصة في القطاعات كافة كالكهرباء والسكن والتربية والتعليم والصحة وتنفيذ المشاريع الخدمية مع تراجع واضح للقطاع العام لصالح القطاع الخاص في إحالة المشاريع لتنفيذها، حتى النظام المصرفي أتجه نحو الخصخصة فيما يعرف بالمصارف الأهلية وشركات الصيرفة التي تمتلك من الأرصدة والعملة الصعبة ما يضاهي المصارف الحكومية.
بل وصل الحال إلى خصخصة القطاع الأمني وإحالة تأمين الطرق الخارجية إلى الشركات الأمنية الخاصة، وهنا تحويل تدريجي لوظيفة الدولة من حارسة إلى متفرجة، فإذا لم تكن الدولة مالكة لابد أن تكون حارسة أو متدخلة.
قد يقول قائل أن الأنظمة السياسية تقاس مدى ديمقراطياتها كلما تقلص دور الدولة في السيطرة على المجال العمومي وسمح للمبادرة الفردية والقطاع الخاص بأخذ دور فاعل وواسع، لكن بالحقيقة أن مآلات تغول الشركات الخاصة والمستثمرين في المجالات التي كانت تضطلع بأعبائها الدولة، يؤشر حالة ضعف تلك الدولة أكثر مما يعطي مؤشرات على ديمقراطيتها، والعجز ناتج عن عدم القدرة بتدشين تلك الأعباء وتمويلها، وعدم القدرة على استيعاب تطور المطالب المجتمعية وتطورات التكنولوجيا المتقدمة التي تتمتع بها مجتمعات الرفاهية، التي تتيح للقطاع الخاص والشركات المستثمرة الهيمنة على دور الدولة بتسيير القطاع العام.
إن السبب الرئيس لعدم قدرة الدولة أن تكون مالكة ومتدخلة هو الديون الخارجية والداخلية الخيالية وارتفاع معدل سقف الدين العام، فالديون مثلا باتت أهم أدوات تمدد الاستثمار للقطاع الخاص في أغلب دول العالم، مما شَكل مشكلة مزدوجة التأثير على اقتصاديات الدول، فالدول تحتاج للقطاع الخاص والاستثمار بوصفه مصدر ضروري لتمويل خطط التنمية وتنفيذ المشاريع واستقطاب العملات الأجنبية المطلوبة، مع توطين أدوات ووسائل الإنتاج، وجذب رؤوس الأموال، وكذلك توفير الآلات والمعدات وتحريك المصانع والمعامل، مما يسهم في دفع عجلة الاقتصاد من جانب. ومن جانب آخر قد يفشل القطاع الخاص في دفع عجلة النمو وينهار مع انهيار الدولة اقتصاديا والنتيجة فشل المراهنة على القطاع الخاص في ظل تراجع دور الدولة وهذا ما حصل في اليونان.
في الحقيقة لابد أن يكون هنالك توازن بين دور الدولة ودور القطاع الخاص والاستثمار عن طريق عقد شراكات متوازنة وتفعيل ما يسمى بالقطاع المختلط والشركات المساهمة، وهنا سيتم الدفع بعجلة الاقتصاد، وهذا لا يتم إلا عبر اضطلاع الدولة بواجباتها في أربعة وظائف اقتصادية وهي:
1- الوظيفة التخصصية لمواجهة فشل آليات اقتصاد السوق أو حدوث خلل في أدائه ومنعه من الاحتكار.
2- الوظيفة التوزيعية أي التأثير بتوزيع السلع والخدمات المقدمة من القطاع الخاص بنحو عادل وعلى وفق الاحتياجات.
3- الوظيفة التشريعية وهي توفير البيئة القانونية لتسهيل عمل القطاع الخاص وما هو دور الدولة فيه وفق شراكات متكافئة يرسخ دور الدولة التدخل بحذر في الحياة الاقتصادية.
4- وظيفة تحقيق الاستقرار للاقتصاد الكلي، عن طريق متابعة استقرار الأسعار ومستوى النمو ورسم وتخطيط السياسة الاقتصادية العامة للدولة ووضع الخطط لمواجهة مخاطر البطالة والتضخم، وتتضمن هذه الوظيفة أيضا الإشراف على السياسة المالية والسياسة النقدية وسياسات التشغيل والتجارة الخارجية وأسعار الصرف وغيره.
ما يؤشر الآن هو نمو الديون الخارجية والداخلية الفاعلة والمستحقة على الدول لصالح الشركات المستثمرة والقطاع الخاص اللذان يهيمنان على وظائف وأعباء هي من اختصاص الدول، والسبب هو أن الأنظمة السياسية والحكومات لم تحسن خاصية استغلال القروض في مشاريع استثمارية مجدية وداعمة للنمو الاقتصادي، بل أغلبها تذهب لموازنات الدفاع والتسلح والحرب والضمان الاجتماعي والرواتب الحكومية المقترنة بدرجات الرضا الشعبي والاستقطاب الانتخابي، ناهيك عن الفوائد والشروط الموضوعة على القروض الذي يفتح السيطرة على القرارات السياسية للدول المقترضة، وهي الحالة الغالبة على الدول النامية الفقيرة في المراحل المبكرة لعملية النمو الاقتصادي. وحينما يأتي وقت سداد الديون والقروض والفوائد المترتبة عليها ومع عجز الميزانيات وتراجع احتياطيات النقد والسندات الحكومية، فأن ذلك يفتح المجال للتأثير السلبي وتوحش رأس المال الأجنبي أو الخارجي مما يؤثر سلبا على الاستقرار الاقتصادي والسياسي ويصبح مناخ الاستثمار والمال والاقتصاد مملوكا للشركات الكبرى والقطاع الخاص مما يجعلها ترث الدولة أو تصبح كيانا موازيا للدولة.
*مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية.