السعيد مرابطي
غبش المدينة الرمادي مدّ في شجيج النهار إلى حدود ضاحيتها الشرقية، فانفلتُّ مؤقتا من رضوض النفس لألقاني هنا… كما لو طاف بي توجس بدوتُ، وأنا أتحفز موطئ قدميّ بين هذه الساحة الشبيهة بكوكب زعفراني اللون، قد شابته تربة ملساء عند أطراف نتوءاته، بيد أن رائحة رطبة تناهت إلى خياشيمي، فأمسكت عن الاستنشاق لحظات حتى أتعود على مزاج المكان، الذي تسلقت جانبا منه صخرة زهرية مرتفعة، مسنّة مسنونة، أطلق عليها سكان البياضة* الأوائل اسم: كاف السلّوم.
سارت بي الخطى فوجدتني هنا.. لتشغلني بأسرارها الساحة وينتابني شبه ذهول !
عم يحيلني ارتباكي هذا وفيم الذهول؟
السير كشاف يذهل كل رواع. وقد يقي من فداحة الجهل ويبرم الانسجام الذي لا يخطر على بال. دفعتُ بالخطى مندهشا بما شغل مجال الرؤية … اصطفت الأشياء أمامي ترشق الساحة بأشكال وألوان في تموسق مريح… لست أدري كيف هزني ذات الموقف المشتبه به وطار بي لأعانق مشهدا شبيها عند عتبة شجيج نهار مقابل، تحرص الذاكرة ترممه لديّ …
يومها كنت ألج حرمة ورشته بتلك المدينة المشاغبة، التي تعرشت بواجهتها جداريته على المدخل.
استقبلتني منحوتاته حيث تشابكت مع فضاء المكان، بأوضاع تعمدها صاحبها على ذلك المنوال الشخصي، كي تسرح العين فيه ما بين ترتيب وإهمال .هي نظرة نحاة يشتبك مع مجسماته قبيل وبعيد إنجازها، عبر هذا الفن المرئي الذي يعتمد على تجسيد مجسمات ثلاثية الأبعاد. ظلت عيني تسرح مبهورة يطرز مرحها ما شاهدته من أشكال بأنماط جمة، تجسدت بمواد طغت عليها مادة الطين، حيث انصهرت فيها روح معانيها ورموزها الآخذة في الإيغال والتنوع . بدا لي مزدحما، مشتبكا برشاقة حركة يد ملتفة من حول ذياك الأزميل يحفر عند جهة من مجسمه الطاعن في بنية اللون . سكون صوفي غص فيه الفضاء الآهل بسكرة الفن؛ لا يجرؤ على خدشه سوى إيقاع أزميله وهو يقطف من لحمة الشكل ويسوي التفاصيل . لحظة انتبه لتواجدي كان كمن استفاق من حلم غشيه وظل مسافرا فيه بكل كيانه.
– مرحبا قال ..وقبل أن أنبس، ساق يسأل: – أأنت من هواة هذا الفن؟..أم…تود..طلب حاجة؟
– لا..لا..أنا أدخل لأول مرة ورشة حقيقية لنحاة.
– جيد . وكيف بدت لك؟ وقد أخذ خرقة قريبة منه وانخرط يمسح يديه من مادة الطين .
تشجعت، استفسرته: – هل المعنى في شكل المنحوتة أم ما تقبض ما عليه بحرية العين؟
راح يرد وسبابته في حراك وتأييد، أو كما تصورت:
– إن شئت فهما معا . ثم دنا يسوق: تبدو قريبا من عالم الفن.
– في الحقيقة أنا من هواة الأدب، ونادرا ما أكتب شيئا ذا بال.
– أنت إذن كاتب. ثم ما لبث أن تبسم في زغب لحيته وقد ترك شعر رأسه معقوفا يتدلى عند
قفاه على شاكلة ذيل حصان*، حيث راح بسحنة أليفة يردف:
– أعتقد أن الكاتب أيضا خزاف.ثم..كأنما به انخطاف .. دخل في نوبة هوس ألقت به في فلك حالته الجوهرية …وتلك يد منه تملكتها رجفة، عمد يغرسها من جديد ليقطع لحمة المادة المتموضعة فوق طاولة معدنية شابها قدم، إذ انخرط يكورها ويجانسها في تلك الجهة التي غارت منها بقعة تحت وقع أزميله، وهو يتمتم في شرود:
– الطين ..الطين ..الطين !
..انقطع الخيط.
بدوت وأنا أتحفز موطئ قدمي بين هذه الساحة الشبيهة بكوكب زعفراني اللون، قد شابته تربة ملساء عند أطراف نتوءاته. تقدمت متهيبا، إذ اصطفت الأشياء أمامي ترشق الساحة بأصناف أوانيها المتراصفة في أحجام وعناق ألوان. عبرت إليها ..لمحتها مقرفصة تفترش حصيرة حلفاء. كنت أقطعُ مسافة ما بين مدخل الساحة ووسطها بتحفز تام، كي لا أتعثر في مجسماتها وكأنني أتهيب حرمة مسرح تاريخ. لم يكن لها ما يهتك عليها شبه خلوتها غير الذي بين يديها، لا ولا تنبهت حتى لحضوري…
أسعد الناس هم الذين تآلفوا مع الكد واستراحوا. وحدهم من تفانوا فاستشعروا في طعم البذل راحة أسبغت عليهم نعمة الضمير المطمئن.
جلت بالعين أعاين المكان ..انزرعت شقيقتاها بزاوية من ذلك الفضاء الطلق.اتخذت كلتاهما ركنا واستغرقتا في دأب حراك . تدسان أحلاما صغيرة بين صلابة معدن وماء شحيح وشظف عيش..بعيدا عن مغريات مدينة عالقة في زيفها، طيشها وغبشها الداهس؛ لا تلقي بالا للذين قطنوا بأطراف الحياة. استدارت بيدين لوحتهما شموس جراء رفسهما للطين كي تلين. وتلك دورة الكائن هذا الذي من صلصال كالفخار، تشرئب الرأس منه للشمس والديمة السكوب… في نشوة من خلق ؛ يلتفتُ للجبل فيقطع من صخره مادة صلبة، فيطحنها فتصير قابلة للعجن. ينصرف للأودية والأنهار والهضاب كي يقطف من الطين المدري، فتلعبُ شأوا أصابعه فيها بعجب وفراسة وإشباع خيال.. كيما تستوي الطين بعد شويها فخارا وفخرا.
قالت واستدارت مرحبة بي:
– مرحبا بك سيدي، لعلها تغريك آنية مما صنعتُ فتشتريها.
توسمتُ فيها طيبة المرأة الكادحة، التي لوحت صروف الدنيا هيأة امرأة في الخمسين .تبسمتُ رادا بالتحية مجيلا بالبصر أتفرس أوانيها لحفظ الأغذية: تراصفت الطناجر والدلات كأواني للطهي. فأما الطواجين قد تشاكلت وتنوعت . في حين تعددت أواني هيأت لحفظ الماء، أين تجمعت القلال والجحلات بينما تمركز الزير وسط تلك الأصناف.
تيقنتُ بأن ذوق المرأة عصري، بعد أن لاحظتُ وجود ما شكلت من زهريات وأصص زراعة ومجامر وأنواع للزينة.
والفضول يلحّ عليّ، رحتُ كمن يستنير:
– كيف تخيرت سيدتي هذا المكان بالذات، متخذة إياه ورشة لك؟.. حدقت فيً .. ثم نكست رأسها برهة وراحت تجانب فضولي:
-أشعر كأن أشيائي لم تعجبك. ثم سبقتني إلى كوخ من الطوب* يقع بركن من الساحة وهي تشير:
– بهذا الكوخ أجمع كل الأواني المشوية لعل بها ما تبحثُ عنه. لحظتئذ أشفقتُ على نفسي لتجردي الذهني من حقيقة أصل القضية وما فيها . كان أجدى بي أن أقول: – يا امرأة فذة من معدن تأصل عرقه الطيب..قشبتِ مسيرك بما شحّ فينا ونضب . قابلت خذلان الدنيا برعشة البدء فيض امتلاك ؛ إذ جابهت الدوائر المغلقة برفعة عن سفاسف، حين جرى فيك دم الحرّة ذات النسب العريق. أنت من يعيدني لروعة البدء فيَ فأرتمي مجددا وبعد ماذا…في بهو خلق ورواق استثناءات لا تتكرر. أنت قصة عشق أبدي لا يفضي بي سوى لعمر تمدد في كفيك خطوطا توصلني بآلاف السنين . كيف أمسكت بسهم حضارة هارب بين صخب الدنيا وإيوانك الضائع فيها هنا ؟
يا للجلال المقيم في كنه البساطة الجوهر!..
تهيأ لي لحظتها أن الفضاء على بساطته وحرص المقيمات عليه –كدّا وتفانيا- كأنما هو معبد تحرسه هالة قداسة. إنك لا تعرف حقيقة معادن الناس وانتماءاتهم الحاسمة لما ظل نابتا فيهم، ما
لم تلتق بهم وجها لوجه.
تفرستُ.. ذهلتُ لجمال منجزاتهن المنمقة بلونها الأحمر والأبيض والبرتقالي…زخارف عتيقة بأيادي شقيقتيها وبأشكال رصعها الزمن بين أصابع نسوة، هكذا تستنطق ذاكرة سحيقة، تمددت على رقعة من غبار عصور تفتأ تطل بعيونها على حاضر غارق في مآسيه..
قلت:-سأشتري منك هذا الأصيص الزهري وهذا الطاجين القرمزي، لكن قبل ذلك خبّريني لم اخترت هذا المكان بالذات المرمي بأطراف المدينة ؟
بوجه متغضن آثرت صمتا ثقيلا مقطبة جبينها، وقد غزاها شرود هزها لأزمنة أخرى…النسوة ذاكرة جريحة مكابرة .خزّان وجع لا يضيق بأيام المآسي. هن….اك..تختبئ أطوار
إخفاقاتهن .. بؤسهن وأعلام منكسة للآمال وفرح لم يعد يجئ.
انفرجت شفتاها بصوت متهدج:
– بهذا المكان، وبدم بارد أقدمت عساكر فرنسا بإطلاق وابل رصاص على والديّ، فارتوت هذه الساحة بدمهما الزكي.