لأسباب تأريخية ما زالت بعيدة عن “بدع” البحث والتنقيب، وجدت على تضاريس مضاربنا المنكوبة تقنيات وتقاليد لا مثيل لها عند المجتمعات والأمم الأخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يعرف بـ (الحيل الشرعية) وهي نوع من المعالجات البراغماتية المبكرة في مواجهة حالات الحرج في التعاطي مع سلطة النقل (النص)، المهيمنة على جماجم “خير أمة” منذ أكثر من ألف عام وعام. تقنيات الزوغان والتملص هذه راكمت كم هائل من التجارب والخبرات، بمقدورنا اقتفاء أثرها اليوم في سلوك وممارسات ما يعرف بأحزاب الإسلام السياسي من شتى العناوين والواجهات والرطانات والبلدان. في العراق مثلاً وبعد زوال النظام المباد، تلقفت الجماعات الإسلاموية مقاليد الأمور فيه، ومن خلال متابعة منهجها وسلوكها في مواجهة تحديات قيادة الدولة والمجتمع، نجدها قد استمدته من ذلك الإرث الهائل من خبرات ومدونات (الحيل الشرعية) التي يمكن التعرف على تحولاتها الجديدة فيما يمكن أن نطلق عليه بـ (فقه التمرير) على سبيل المثال لا الحصر، إذ يتم تمرير أخطر التشريعات والقرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بعد التأكد من مناخات الهشاشة والغيبوبة والأوقات الحرجة الضامنة لذلك، وعبر تكتيك الدمار الشامل هذا، يحكمون قبضتهم على مصائر رعية فقدت بوصلتها منذ زمن بعيد.
يستغرب البعض من هذا النحس الذي لا ينفك عن مرافقتنا زمن النظام المباد وبعد 15 عاماً على زواله، ومن تسلل هذا الكم الهائل من اللصوص والفاسدين الى سدة القرار، من دون أن يلتفت الى مثل هذه التقنيات المتخصصة بـ (تمرير) أخطر القوانين وأبشعها وأكثرها ديماغوجية وتخلفاً، ودورها في استمرار وديمومة هذه القسمة العاثرة. إن بقاء قوانين وتشريعات النظام المباد ورموزه وراياته وأناشيده وإيقاعاته وهوساته وغير ذلك من مقتنيات ترسانته الصدئة، ليس أمرا عابرا أو من قبيل الصدفة، ومن يتفحص قليلاً حجم وطبيعة المشتركات القيمية والعقائدية والأهداف النهائية بينهما (ما قبل التغيير وبعده) يجدهما كبيرتين، لا سيما وهما يتفقان على الرسالة الخالدة نفسها وما يحف بها من مدونات وسرديات. لذلك كله لا يمكن أن نستغرب مثل هذه الأحداث والتطورات المأساوية التي عشناها برفقتهم، صحيح أن فلول النظام المباد لم ولن تكف عن محاولاتها لإجهاض التجربة الفتية، لكنها هي ذاتها تستمد قوتها وحيويتها من سلوك ونهج وممارسات الطبقة السياسية الحالية، إذ يتبادل الطرفان الخدمات على حساب التطلعات المشروعة لسكان هذا الوطن المنكوب بعقول وضمائر مثقلة بموروثات الشعوذة والتمرير واللصوصية والحيل.
اليوم ونحن نقف على أبواب الدورة الرابعة للانتخابات البرلمانية (12 آيار 2018)، يمكننا التأكد من المآثر التي اجترحها “فقه التمرير” وبدعم من “فقه السلة الواحدة” وبقية فروع الفقه المبتكرة، حيث المناخات والشروط والهيئات والمفوضيات والشبكات والجوامع والجامعات وكونفرنسات القبائل والعشائر والملاكات والاصطفافات والتشريعات جميعها تقف الى جانب إعادة البيعة للطبقة السياسية الحالية ودكاكينها ووجوهها ومسمياتها الجديدة. لكن كل هذا ما كان بمقدورهم تمريره، لولا خيانة وجبن وخنوع غالبية المنتسبين لنادي الانتلجينسيا (المثقفين) وبنحو خاص العاملين والمهتمين في مجالي الإعلام والقضاء والقانون والتشريع، الذين سخروا كل مواهبهم وديباجاتهم اللغوية والتخصصية لخيانة الأهداف السامية والحضارية المناصرة لحرية الإنسان وكرامته، التي وجدت من أجلها التشريعات والقوانين..
جمال جصاني
فقه التمرير
التعليقات مغلقة