صبيح عبد الله
تقاذفته أمواج البحر المتلاطمة , بشكل متناوب وكأن هذه الأمواج تعاونت فيما بينها على حمل جسده الغض وإنقاذه من مجاهل البحر العميق .
كان جسده يطفو فوق قمة موجة عاتية ثم يُقذف به إلى قمة موجة أخرى أشد قوة وأكثر صخباً .. صار جسده يسبح بلا إرادة في اتجاهات مختلفة كأنه ريشة على تيار .
كان الطفل يرضع العذابات والأهوال في أتون البحر , ويرتجف من الرعب حتى أغمى عليه , وانساح فوق ذرى الموجات التي تمتد وتنحسر , ولم ينتشله أحد من الغرق سوى العناية الإلهية التي جعلت رغوة البحر تلفظه إلى تربة الساحل التي توهجت تحت جسده كأنه لؤلؤة خرجت من صدفة بحرية .
ظل على الشاطئ متدثراً بملابس صوفية منقعة بالماء .. يندلق زبد البحر من فمه , وخصلات شعره المبللة تضلل عينيه .. لقد اكتسب وجههُ , برغم المحنة , طبيعة الجمال البحري .
أحاطت به بعض الوجوه الحاشدة , وبروح تعاونية تناوشته الأيادي في محاولة لإسعافه وإنقاذه .. سمعوا إيقاع قلبه , وصوت الحياة الخافت في عروقه.. قاموا بتنقية حواسه عن طريق التنفس الاصطناعي حتى أنتفض جسده الرطب , وزفر المياه العالقة في جوفه .
– معجـزة ! هــذا الطفـل حـي !
لم يعرفوا شيئاً عن هوية الطفل سوى معلومات مفترضة بأن عمره لا يتجاوز الأربع أو خمس سنوات , وربما كان أبناً لأحد الأسر المهاجرة الفارة من هول الحروب في بلدانهم .. وكان نصيب المساكين الغرق .
بعد أن أصبح الطفل في وضع مريح , فتح عينيه وكأنه أستيقظ من سبات طويل .. وبدا أنه أستشعر روح المكان وألف الوجود النقي الذي يحيط به .
لبث الطفل ساكن الملامح .. لم يستطع البكاء ولا الكلام ولا حتى الابتسام ,
بل شخص نظره نحو طيور النورس التي دثرت أجنحتها على صفحة المياه وبعضها حلقت فوق رأسه .
تحركت غرائز الطفل , ابتسم لأول مرة .. لوح بيده نحو الطيور التي تجمهرت فوق رأسه .. انطلقت احاسيسه وتجاوب مع الطيور مغرداً