عمرو حمزاوي
حين تعمد الحكومات إلى منع تداول المعلومات والحقائق الكاملة بشأن قضايا السياسة الداخلية والخارجية، حين يستخف الحكام بالرغبة المشروعة للمواطن فى المعرفة ومتابعة الأمور العامة وقضايا السياسة التى تقع فى موقع القلب منها ويتحايلون على النصوص الدستورية والقانونية التى تكفل الحق فى المعرفة، حين يتلاعب المسؤولون الرسميون بعقول الناس ويخضعونهم من خلال الترويج لأنصاف المعلومات وأشباه الحقائق لصنوف من الخداع وتزييف الوعى؛ عندها لا تجد المجتمعات من سند لمراقبة الحكومات ومحاسبة الحكام وكف يد الرسميين عن تزييف الوعى العام غير وسائل الإعلام الحرة والصحافة الحرة. عندها تحتفى المجتمعات بذلك النفر من الإعلاميين والصحفيين الذين يواجهون غطرسة الحكام بكلمة الحق ويتمسكون نيابة عن الناس بحرية تداول المعلومات والحقائق وحرية التعبير عن الرأى كأبطال أسطوريين تختزن الذاكرة الجمعية كلماتهم ومواقفهم وشجاعتهم مثلما تتألم بسبب الإجراءات العقابية والقمعية التى كثيرا ما تنزلها بهم الحكومات.
هذه، باختصار، هى الرسالة الأخلاقية والسياسية المباشرة للفيلم الروائى الجديد للمخرج ستيفن سبيلبرج «البوست» (The Post). الإطار الزمنى والمكانى الذى تدور به أحداث الفيلم هو بداية سبعينيات القرن العشرين فى العاصمة الأمريكية واشنطن. والسياق السياسى هو الحرب الأمريكية على فيتنام التى كانت آنذاك فى عقدها الثالث. وقضية الفيلم هى صحيفة «الواشنطن بوست» (واسم الفيلم يشير إليها)، وناشرتها كاثرين جراهام التى تجسد شخصيتها الممثلة ميريل ستريب، ومحررها بن برادلى الذى يلعب دوره الممثل توم هانكس.
فى خمسينيات القرن العشرين تورطت الولايات المتحدة الأمريكية عسكريا فى الهند الصينية، وأشعلت تحت يافطات «احتواء الشيوعية» حربا مدمرة على فيتنام التى تصارعت على السيطرة عليها مجموعات يمينية ساندتها واشنطن وحركات شيوعية دعمها الحزب الشيوعى الحاكم فى الصين والاتحاد السوفييتى السابق. انقسمت فيتنام إلى جمهورية جنوبية خاضعة للنفوذ الأمريكى وجمهورية شمالية يدير شأنها الحزب الشيوعى الفيتنامى ولسنوات طويلة زعيمه التاريخى هو شى من. تدريجيا، صار التورط العسكرى للولايات المتحدة حربا مدمرة ووحشية ارتكبت بها جرائم مفزعة ضد الإنسانية وأسقطت مئات الآلاف من الضحايا المدنيين والعسكريين فى فيتنام الجنوبية والشمالية، وشارك بها مئات الآلاف من الجنود الأمريكيين الذين سقط منهم ما يقرب من ٦٠ ألف قتيل، وأنفقت عليها بلايين الدولارات التى كان يمكن للولايات المتحدة بشىء من الرشادة والمسئولية أن توجهها إِما للإنفاق الداخلى أو للإنفاق الخارجى على جهود التنمية العالمية، وانتهت فى ١٩٧٥ بانسحاب القوات الأمريكية وانهيار جمهورية فيتنام الجنوبية وتوحد فيتنام تحت حكم الحزب الشيوعى وجمهوريته الاشتراكية.
بين خمسينيات القرن العشرين وسبعينياته، تعاقب على البيت الأبيض رؤساء جمهوريون وديمقراطيون تفاوتت بشدة توجهاتهم فى السياسة الداخلية والخارجية واشتركوا فى جريمة مواصلة الحرب المدمرة على فيتنام وتجاهل الغضب المتصاعد فى المجتمع الأمريكى والإدانة العالمية الكاسحة. اشترك الرؤساء هارى ترومان ودوايت أيزنهاور وجون كينيدى وليندون جونسون وريتشارد نيكسون أيضا فى جريمة خداع الرأى العام الأمريكى وتزييف وعى الناس بشأن الحرب على فيتنام إما بمنع التداول الحر للمعلومات، أو بإخفاء الحقائق، أو بالترويج لأنصاف المعلومات وأشباه الحقائق، أو بالتشكيك فى الولاء الوطنى للسياسيين والمثقفين والإعلاميين والصحفيين الذين عارضوا الحرب ووجدوا أنفسهم فى خانات الاتهام بالتعاطف مع الشيوعية، أو بتخوين وقمع حركات الرفض الشبابية والطلابية التى اكتسبت دفعا شعبيا كبيرا فى الستينيات والسبعينيات. فى وجه خداع الرؤساء وحكوماتهم وقفت الصحافة الحرة فى الولايات المتحدة الأمريكية مدافعة عن حرية تداول المعلومات والحقائق وعن حرية التعبير عن الرأى، انتصارا للدور المقدس للصحافة كسلطة رابعة تراقب وتحاسب السلطة التنفيذية باسم الناس ونيابة عنهم ودفاعا عن حق المجتمع الأمريكى فى معرفة ما يجرى فى فيتنام ومعارضة حرب ارتكبت بها جرائم مفزعة وسقط بها مئات الآلاف من الضحايا وأنفقت عليها بلايين الدولارات.
من هنا تبدأ الحكاية الواقعية لفيلم «البوست»، من مساعى صحيفة الواشنطن بوست التى كانت آنذاك صحيفة صغيرة ومحدودة الانتشار الحصول على «أوراق البنتاجون» وتلك كانت آلاف الوثائق السرية التى حوتها دراسات مفصلة أعدتها وزارة الدفاع الأمريكية فى الستينيات حول الحرب على فيتنام وكشفت عن سوء الإدارة العسكرية والسياسية للحرب وانتهت إلى فشل الولايات المتحدة فى تحقيق أهدافها وحتمية إنهاء الوجود العسكرى الأمريكى فى فيتنام والهند الصينية. فى ١٩٧١، حققت صحيفة النيويورك تايمز سبق نشر بعض «أوراق البنتاجون» التى وثقت خداع الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين للرأى العام وكشفت الكثير من أسرار الحرب. غير أن إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون استصدرت أمرا قضائيا بوقف النشر فى التايمز بادعاء تهديد الأمن القومى والمصالح الوطنية، وامتثلت التايمز. فما كان من الواشنطن بوست، لشجاعة ناشرتها كاثرين جراهام / ميريل ستريب (وهى كانت السيدة الأولى التى أصبحت ناشرة لصحيفة يومية أمريكية) وجراءة محررها بن برادلى / توم هانكس، سوى أن واصلت النشر وواجهت إدارة نيكسون قضائيا بنجاح. ثم انضمت «البوست» إلى النيويورك تايمز فى دعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية العليا للدفاع عن حق الصحف فى مراقبة ومحاسبة الرؤساء وحكوماتهم باسم الناس وفى نشر ما يثبت ممارسات الفساد والخداع وسوء الإدارة التى قد يتورطون بها، ولحماية التداول الحر للمعلومات والحقائق وغل يد الحكومات عن منعه. حكمت الدستورية العليا الأمريكية لصالح الصحيفتين وسمحت بنشر «أوراق البنتاجون»، ورفضت محاولات إدارة نيكسون التحايل على الحرية وعلى المراقبة والمحاسبة الشعبية. شجاعة الناشرة، التى يلفت الفيلم ببراعة النظر إلى الصعوبات التى واجهتها كسيدة وغطرسة بعض الرجال فى التعامل معها، وجراءة المحرر، الذى يعالج الفيلم من خلال شخصيته خطورة استغلال السياسيين والرسميين للصحافة وتزلفهم إلى المحررين والصحفيين أو تهديدهم بالويل والثبور لكى ينصرفوا عن مراقبة ومحاسبة السلطة؛ الشجاعة والجراءة هاتان دفعتا «البوست»، بعد أن نشرت الوثائق السرية وأسهمت مع صحف أخرى وضمن عوامل أخرى أهمها المعارضة الشعبية المتصاعدة فى إنهاء الحرب الأمريكية على فيتنام فى ١٩٧٥، من خانات الصحف الصغيرة ومحدودة الانتشار إلى مصاف الصحف الكبيرة والمؤثرة أمريكيا وعالميا.
يحمل فيلم «البوست»، وبه تبهر العظيمة ميريل ستريب بأداء بديع وتتلبس شخصياته الرئيسية روح السبعينيات المتحدية للسلطة، إسقاطا سياسيا واضحا على الأوضاع الراهنة فى الولايات المتحدة الأمريكية التى عاد بها إلى البيت الأبيض رئيس منتخب لا يحترم حق المواطن فى المعرفة ولا يريد للصحافة أن تمارس عملها بحرية ولا يعتبر للمراقبة والمحاسبة الشعبية ولا يتردد عن تخوين معارضيه وادعاء بطولته الفردية. يظهر الفيلم التشابه العميق بين ريتشارد نيكسون فى سبعينيات القرن العشرين ودونالد ترامب فى ٢٠١٧ و٢٠١٨. «البوست» يذكر أمريكيا وعالميا، دون شبهة الاستعلاء الأمريكى، بالمهمة المقدسة المنوطة بالإعلام الحر والصحافة الحرة، مهمة مواجهة الحكام والحكومات بالمعلومة والحقيقة وكلمة الحق دفاعا عن حق الناس فى المعرفة وحق المجتمع فى مراقبة ومحاسبة السلطة. وما أحوج الإعلام الحر والصحافة الحرة فى مصر إلى تذكر مقومات وواجبات هذه المهمة المقدسة، وتدبر سبل تفعيلها فى مرحلة تغيب عنها ضمانات حماية المواطن والوعى العام من سيل الخداع والزيف وتتعذر بها سبل مراقبة ومحاسبة السلطة.
* ينشر هذا المقال بالإتفاق مع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ٢٠١٤
لقراءة النص الأصلي٬ إتبع الرابط التالي: http://carnegieendowment.org/sada